آلام مؤبدة في سجون الاحتلال الإسرائيلي

اخبار البلد -
 

الألم شعور صعب وغير مريح، ولا يمكن وصفه حتى لمن خاض تجربته، وهو يختلف من ‏حيث المكان المصاب، ومدى شدته، ومسبباته، وكذلك ما إذا كان جسدياً، أو نفسياً، أو غيره. ‏طوّر الإنسان العديد من الطرق والأدوية لتخفيف حدة الألم، ولم يصل بعد إلى وسيلة، لتلافيه، ‏أو وقفه، فور الشعور به، ويجمع من عايش الآلام الشديدة على "عدم تمنيها لعدو أو صديق”.‏
أشار العالم الألماني "آرتور شوبنهاور” أنه "لولا الشعور بالألم للحظات من حياة الإنسان، ما كان ‏له أن يشعر بالإيجابيات الكبرى التي أنعم الله عليه بها، وهي "الصحة والشباب والحرية”، وهي ‏قيم بحد ذاتها يمكن توجيهها في محاربة الألم.” بيّن كذلك الفيلسوف "فريدريك نيتشه” أن ‏‏”المشكلة لا تكمن في الألم بحد ذاته، لكن في غياب سؤال عن جواب لم الألم.” من جهته، حلّل ‏الطبيب الألماني المشهور "روبرت شميدت” صرخة الآه، ووجدها تعبر عن ألم عميق جداً، وهي ‏تقال بكل اللغات، ولكن بتحريف بسيط جداً، ولاحظ أن الهاء المشتركة في نهاية الكلمات، ‏بمثابة صوت عميق تتذبذب له منطقة الحلق، فيخف الألم، بنسبة ضئيلة، وكأن حملاً يخرج ‏مع الكلمة.‏
تمتد هذه الآلام في الأسر لسنين طويلة، ويصبح أخف تلك الآلام غاية في الشدة والضيق، ‏فيمتزج الألم بالشعور بالعجز، وعدم المقدرة على إنهاء هذا العذاب المتواصل، أو حتى تخفيف ‏حدته، فينتج حالة من فقدان الأمل في العلاج، ولهذا أطلق تعبير "حكم مؤبد مع الألم.”‏
يقبع في "سجون” الاحتلال الإسرائيلي نحو 5000 أسير فلسطيني وعربي، منهم أكثر من 500 ‏أسير وأسيرة، يوصفون بالأسرى المرضى أصحاب الملفات الطبية الصعبة، ويتم الإشارة لهم في ‏كافة فعاليات التضامن مع الحركة الأسيرة، مع مطالبات بالإفراج عنهم، ومتابعة أحوالهم ‏الصحية، وتخفيف آلامهم، كمقدمة لعلاج حقيقي. يعاني قسم من هؤلاء الأسرى من مرض ‏السرطان القاتل، ويعاني الآخرون من الشلل، وبتر في الأطراف، وفقدان البصر، والسمع، ‏وحروق وإصابات معقدة، وجميعهم بحاجة إلى متابعة طبية جدية، وعمليات جراحية مستعجلة. ‏رغم ذلك، لا تأبه "إدارة مصلحة سجون الاحتلال الإسرائيلي” بعذابات هؤلاء الأسرى، وآلامهم، ‏بل تمارس بحقهم سياسة الإهمال الطبي المتعمد. ‏
إن أغلب الحالات الصعبة هي لأسرى محكومين بسنوات طويلة، أو مؤبد، وغالبهم أمضى ‏فترات طويلة في "سجون” الاحتلال، ولا يمكن تصور مدى صعوبة الحياة في الأسر، مع ‏معيقات جسدية، وآلام شديدة، ممتدة لعقود، وأبرز هؤلاء الأسرى: إسراء الجعابيص، وحمادة ‏براش، ومنصور موقدة، وخالد الشاويش، وفؤاد الشوبكي.‏
اعتقلت الأسيرة المقدسية إسراء الجعابيص، عام 2015، بعد إصابتها بحروق خطيرة، في كافة ‏أنحاء جسدها، وبتر في أصابع يديها، وهي تعاني في الأسر على مدار الساعة من آلام تلك ‏الحروق. رغم ذلك، ترفض "إدارة سجون الاحتلال” إجراء العديد من العمليات الجراحية التي ‏تحتاجها، وترفض كل المناشدات والتدخلات، للعديد من المؤسسات الرسمية والحقوقية، ‏والإنسانية، الداعية لعلاج حقيقي فعّال لها.‏
اعتقل كذلك الأسير حمادة براش من مخيم الأمعري، عام 2003، وحكم بالسجن المؤبد، ومنذ ‏اعتقاله يعاني من بتر في القدم، وشظايا في كافة أنحاء جسده، وقد فقد النظر كلياً، والسمع ‏جزئياً، أثناء وجوده في "السجن”. يعيش براش في غرفة مع 7 أسرى في "سجن عسقلان”، وهو ‏يحاول أنْ لا يكون مصدر تعب وعبء إضافي على رفاقه الأسرى في تلبية احتياجاته ما ‏استطاع، لكن ظروفه الصحية لا تسمح له بإخفاء آلامه. يطالب براش منذ سنوات طويلة علاجاً ‏لعينيه، وهو بحاجة إلى زراعة شبكية، كي يتمكن من الاعتماد على نفسه، والقيام باحتياجاته ‏الشخصية ما أمكن، كما يحتاج لطرف صناعي في قدمه التي ما زالت تلتهب، وتنزف دماً، ‏وتسبب آلام شديدة، وذلك لعدم ملاءمة الطرف الصناعي الذي قدم له بعد سنين من المماطلة.‏
في السياق ذاته، يقبع في "عيادة سجن الرملة”، بمساحة لا تزيد عن عشرات الأمتار، وظروف ‏قاهرة، لا يحتملها إلّا من يتحدى الصعاب، الأسير منصور موقدة من سلفيت، وهو معتقل منذ ‏عام 2002، ومحكوم بالمؤبد، وكذلك الأسير خالد الشاويش من طوباس، وهو معتقل منذ عام ‏‏2007، ومحكوم بالمؤبد. يعاني موقدة من ظروف صحية قاسية، فهو مقعد، وأحشاؤه ‏خارج جسده، وهو بحاجة ماسّة لعمليات جراحية، علها تخفف آلامه، أما الشاويش، فهو مصاب ‏بالشلل، وشظايا الرصاص تملأ جسده، وهو لا يعرف طعماً للنوم، من شدة آلامه التي لا ‏تتوقف، إلا حين يتم تخديره.‏
يعاني كذلك الأسير فؤاد الشوبكي "شيخ الأسرى” الذي تجاوز عمره 83 عاماً، ضعفاً في النظر، ‏والكثير من الأمراض المؤلمة، وآخرها سرطان البروستات. لم يتبق لانتهاء فترة محكومية ‏الشوبكي، سوى عام فقط، ورغم كل المحاولات التي قامت بها مؤسسات السلطة الوطنية، وهيئة ‏شؤون الأسرى، ونادي الأسير الفلسطيني، ومحامون خاصون، من أجل تقديم العلاج المناسب ‏له، والإفراج عنه، إلا أن "إدارة سجون الاحتلال”، أبدت في كل مرة التعنت، ورفضت هذه ‏المحاولات.‏
إن حالات الأسرى المرضى السابقة هي عرض مختصر لما يواجهون من إهمال طبي، وبالطبع ‏هناك العشرات من الحالات الخطيرة، المصابة بأمراض القلب، وأيضاً السرطان، كان آخرها ‏حالة الأسير ناصر أبو حميد. لقد دخلت حالة أبو حميد الصحية في مرحلة حرجة، وفي الوقت ‏نفسه، تحاول "إدارات السجون” وطواقمها الطبية، الترويج لوجود تحسن على وضعه الصحي، ‏وهي سياسة استخدمت مع شهداء الحركة الأسيرة الذين قضوا نحبهم، بسبب الإهمال الطبي. ‏
تؤكد كافة المؤسسات الدولية الإنسانية والحقوقية الدولية على حق كل إنسان في العلاج، ويؤكد ‏الأطباء، والمؤسسات الطبية العالمية على أن الكشف المبكر عن المرض يزيد من فرص الشفاء ‏بعد توفير علاج حقيقي وجاد. إن لوائح وأنظمة "إدارة سجون الاحتلال” تنص على حق الأسرى ‏في طلب طبيب خاص، لكنها ترفض التعاطي الفعلي مع هذا الحق، وما زالت الحركة الأسيرة ‏تناضل من أجل إجراء فحص طبي شامل ودوري، لكافة الأسرى، خاصة كبار السن، وذوي ‏الأحكام العالية.‏
تبذل القيادة الفلسطينية، وهيئة شؤون الأسرى، ونادي الأسير الفلسطيني، ومؤسسات حقوقية، ‏جهوداً مشهودة، في محاولة علاج وتخفيف آلام الأسرى المرضى، لكنها تجابه بصعوبات كبيرة. ‏طبقاً لذلك، قد يكون من المجدي تشكيل لجنة خاصة من وزارة الصحة الفلسطينية، والمؤسسات ‏المعنية بشؤون الأسرى، تختص مهمتها في متابعة الحالات الصعبة التي بحاجة لإجراء عمليات ‏جراحية عاجلة، والضغط على "إدارات السجون” من خلال رفع هذه الملفات الطبية لمنظمات ‏دولية، مثل منظمة الأمم المتحدة، ومنظمة الصحة العالمية، وأطباء بلا حدود، واللجنة الدولية ‏للصليب الأحمر، وغيرها. لعلّه بتلك الخطوة يمكن إنفاذ القرارات الدولية الملزمة الخاصة بمعاملة ‏الأسرى الطبية، وتوفير العلاج المناسب لهم، أو الإفراج عنهم إذا لم تقدم لهم الرعاية الطبية ‏لأي سبب كان.‏