الحبّ كلّه
اخبار البلد -
بلغتُ المبنى 6 شارع لبسوس، وصادف أن رفعتُ عينيّ، كانت هناك غيمة تتراكض في سماء الإسكندرية الزرقاء الصافية. شجرة سامقة لا أعرف اسمها تظلل المكان، وترمي على الشارع والمباني ظلالا ثقيلة، ثم تواجهك بوابة عريضة مشرعة تؤدي إلى سلّم واسع، ونافذة كبيرة مستطيلة الشكل، لا أدري لمَ رأيتها بهيئة صليب
في الطابق الثاني من المبنى منزل الشاعر، وقد صار الآن متحفا. قرعت الجرس الكهربائي، وكان يأتيني صدى رنينه المتصل حين فتح الموظف المسؤول الباب، وكان يتوضّأ لأداء صلاة الظهر:
زمن الزيارة ثلث ساعة فقط
قال الرجل، ودخلتُ بيت كافافي. بوسعي الآن أن أستظهر ديوان الشاعر كله من الغلاف إلى الغلاف، دون الحاجة إلى إعمال الذاكرة. وفي اللحظة التالية جرى لي العكس من هذا التفكير؛ كأني لم أقرأ للشاعر من قبل أبدا، وها أنا أرى قصائده ماثلة أمامي، وتطولها ذراعي. كان حضور الشاعر طاغيا إلى حدّ أنك تحسّ بنفسك لا مرئيا، أي أن الواقع انقلب بواسطة الشعر؛ فالغائب الميت يظهر شاخصا في المكان، والزائر الحيّ يبدو غائبا تماما. دقائق، وازداد شعوري بنوع من الرعب المقدّس بأنني أنا كافافيس، والخطوات التي أخطوها هي خطواته. من منا، نحن الاثنين، يكتب الآن هذه الأبيات عن أنا متعدّدة، وكآبة واحدة؟
«يوم رتيب، يليه آخر رتيب
كسابقه، يتطابق معه، وما حدث مرة
سيحدث لنا ثانية، وثانية ـ
اللحظات المتشابهة تأتي وتذهب»
جئتُ المتحف ومعي كافافيس مترجما إلى العربية في أربعة كتب، هي عدّتي لمّا درست الشاعر، والمترجمون هم نعيم عطيّة وسعدي يوسف وأحمد مرسي ورفعت سلام
لو احتجتَ إلى شيء نادي عليّ
قال الموظّف، وسار يحمل سجّادة الصلاة إلى غرفة في أقصى اليمين اتّخذها مسكنا. صلاة عميقة يؤديها مسلم في بيت كافافيس، أيّ لوحات سيريالية تعرضها الحياة لنا في ما يشبه دوامة حلم لا نهاية لها؟! ستلتمّ الصلوات مع القصائد في الليل عندما تقفل المقهى القريبة أبوابها ويغادر شارع ليسبوس آخر العائدين إلى بيته من الحانة. اللاّمبالاة والضجر الشديدان يخلقان حياة مختلفة، بحماس أو بلا حماس، وهما الدافع الأهمّ وراء كتابة قصائد كافافي العظيمة: «بلا تحفّظ، بلا حسرة، بنوا حولي أسوارا ضخمة عالية وها أنا أجلس الآن في يأس، لا أفكر في شيء آخر»
كم تبدو السماء شديدة الزرقة من نوافذ المنزل! لا وجود لرغبات وإغواءات كافافي هنا. منذ الوهلة الأولى تيقّنت أن محاولتي معرفة حياة الشاعر عن طريق تمثّل أثاثه وموجوداته ما هي إلا عملية تسقم القلب، فالكرسي والطاولة والسرير، في اللحظة التي نغادرها إلى الأبد، تعود إلى أصولها، يرجع الكرسيّ خشبا، والسرير الحديدي يسترجع ذاته، وحريته الأولى. وهكذا فإن قطع الأثاث في بيت كافافيس، التي جُمعت من أسواق بيع الأثاث، وطليت بالدهان، وجرت عليها عمليات تزيين وتشويه لا علاقة لها بكافافيس الشاعر، ولا الإنسان. هي الآن تماثيل مستقلة عن صاحبها، والأصحّ أن نعمل لكلّ منها متحفا خاصا بها
المهتمون بأعمال السياحة يشبهون الملوك في سابق الزمان؛ إذا دخلوا قرية أفسدوها، وإلى هذا السبب حرصت على أن أحتفظ بذكرى أبدية من هذا المتحف بلا شيء سوى باللوحات المرسومة للشاعر، وتمثاله، وبقصيدة لسعدي يوسف مؤطرة ومعلقة على الحائط:
«6 شارع ليسبوس
من أين جاء أغارقة الليل؟
من أين جاء النبيذ؟
ومن أين هذا الغناء الذي يترنح؟»
الشاعر هو المخلوق الوحيد الذي يتخطى الحياة بواسطة الحبّ، ويثبت للجميع أنه أمر مطلق، يأخذ كلّ شيء، أو يخسر كلّ شيء. كلّ عاشق في الوجود هو شاعر. كافافيس وسعدي يوسف في المنزل نفسه، أيّ حبّ عجيب يسكنني الآن إذن لأني أزوره، وأيّ سلام، وأيّ روعة؟
عندما نشرت مجلة سويسرية، أنطولوجيا الشعر العالمي عام 1945 جاءت قصيدة «في انتظار البرابرة» في الصدارة، وحظيت بهذا التعليق: «القصيدة لا تدلّ على شيء ما حدث وقت كتابتها، أو قبله، وحسب، بل إنها تظلّ وستظل- تومئ إلى حقيقة إنسانية متجدّدة». لكن أفضل وصف لهذه القصيدة هو ما رواه صديقي الشاعر عصام الحلّي، وما جرى له مع السيدة والدته. كانت تنظّف حجرات البيت، وتعثرّت بكتيّب صغير لا يتماشى في الهيئة وفي الحجم مع ما في مكتبات ابنها الضّخمة من كتب فاخرة التجليد، فسألته إن كان هذا زائدا عن الحاجة، وهمّت أن ترميه في سلة النفايات. هتف الشاعر متوسّلاً:
لكن هل تدرين يا أمي هذا الكتاب يعادل جميع ما لديّ في المكتبة!؟
تعاين الأم الرفوفَ العديدة المثقلة، وتعود تنظر إلى الكتيّب، وتتعجّب. ما هو الكلام المنقوش في صفحاته؟ وكان الكتاب يحمل عنوان « من الشعر اليوناني» بترجمة جليل عطيّة، وفيه أول ذكر لقصيدة كافافيس الشهيرة «في انتظار البرابرة». الشاعر ذو الوقفة المائلة قليلا عن زاوية الكون، السيد اليوناني ذو القبعة القشية، الرجل النحيف المنشغل بالماضي، المهتمّ ببهاء العالم الإغريقي، لكن بالطريقة التي تساعدنا على أن نهتمّ بحاضرنا، وكلّ ما كان في حاجة إليه هو الكتابة عن نفسه، ولو أحصينا عدد من يحفظون قصيدة «المدينة» لجاء الرقم غالبا على أيّ قصيدة أخرى في تاريخ الشعر: «لن تجد بلدانا وبحورا أخرى، ستلاحقك المدينة وستهيم في الشوارع ذاتها، وستدركك الشيخوخة في هذه الأحياء بعينها ما من سفين من أجلك، وما من سبيل. وما دمت قد خرّبت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود»
رغم شهرة هاتين القصيدتين: «في انتظار البرابرة» و «المدينة» بالإضافة إلى أسطورة «إيثاكا» يبقى شعر الحبّ هو أثمن ما قرأنا للشاعر:
قال إنه جرح نفسه أو إنه سقط
لكن قد يكون هناك سبب آخر
للكتف الجريح المربوط
لم يترجم هذه القصيدة غير رفعت سلام، ولم يأت على ذكرها أهمّ ناقدين درسا تجربة الشاعر، وهما بيتر بين صاحب كتاب «المثلث الإغريقي» وبورا مؤلف «التجربة الخلاقة» لكنني أرى فيها قصيدة حبّ استطاع الشاعر فيها تصوير الداخل بعبارات من الخارج: «بحركة مفاجئة/ وهو يُحضرُ من أحد الرفوف/ بعض الصور الفوتوغرافية ليراها عن قرب/ انحلّ الرباط وسال قليل من الدم». التشبيه والكناية والاستعارة والمجاز والوصف، كل هذا يعود إلى القانون البلاغي: «شفّ الثوبُ ووصفَ الجسد» أي أن الشاعر والناثر يحكي لنا عمّا رآه، والباطن متروك لخبراء الأمر الباطن. في قصيدة «الكتف المربوط» يصف لنا كافافيس داخلنا، ويجعله جزءا من القصيدة: «ربطتُ الكتف من جديد/ وتباطأتُ في الربط: لم يكن متألما/ أحببتُ أن أنظر إلى الدّم/ هذا الدّمُ كان بعضَ حبيبي»
تشمل فحوصات الـ(DNA) الشَعر واللعاب والدمع والعرق والمنيّ، بالإضافة إلى الدّم، وهذا كلّه يدخل فيه الحبّ، ونستطيع الكشف عنه بالتحليل المجهري، لكننا نراه هنا مجسّدا بواسطة الشعر: «حين غادر، عثرتُ أمام المقعد/على خِرقة دامية من الأربطة/ خرقةٍ لها أن تُرمى في النفايات/ وضعتها على شفتيّ/ وتركتها هناك وقتا طويلا/ دمُ حبيبي على شفتي»
يخبرنا رفعت سلام أن القصيدة كُتبت في مايو/أيار 1919، وهو تاريخ متأخر جدا بالنسبة إلى مغامرات كافافيس في شبابه. دعونا نتخيّل الشاعر وهو جالس في الليل في صالون بيته؛ شمعة واحدة تكفي أن تعيد إليه حبّه الأعمق، لأنه يذوق الآن حبيبه كلّه، كلّه