عاشت الذكرى.. فهل تدوم الثورة؟

اخبار البلد - 
 

اعتدنا أن نتبادل التهاني في ذكرى انطلاقة أي فصيل بشعار ” عاشت الذكرى.. دامت الثورة”، ما يربط الماضي بالحاضر والمستقبل، في تمجيد لذكرى الانطلاقة، وتأكيد على مواصلة المسيرة حتى تحقيق الأهداف التي انطلقت الثورة من أجلها. وحركة "فتح” هي أكثر من ترتبط ذكرى انطلاقتها بذكرى الثورة الفلسطينية المعاصرة، ليس لأنها الأولى زمنيا فقط، بل ايضا لطبيعة هذه الحركة "التي تشبه شعبها”، وحجمها ودورها القيادي، فهي التي شكلت على مدى العقود العمود الفقري لحركة التحرر الوطني الفلسطيني بشكل عام، ولمنظمة التحرير الفلسطينية، حتى بات شائعا القول "إذا كانت فتح بخير فالثورة والمنظمة والشعب بخير”.

وليس من قبيل الصدفة أن الزعيم العربي الراحل جمال عبد الناصر وصف حركة فتح والثورة الفلسطينية بأنها "أنبل ظاهرة عرفها التاريخ”، وقال خلال استقباله الشهيد ياسر عرفات بأنها "وجدت لتبقى”، فرد عليه أبو عمار”أنها وجدت لتبقى وتنتصر”. عبد الناصر كان في ذلك الوقت زعيما أمميا وكانت مصر تستضيف عشرات حركات التحرر من أفريقيا وآسيا، ولكنه كان يدرك جيدا ما الذي مثلته حركة فتح والثورة الفلسطينية في التاريخ إزاء مشروع كولونيالي، عرفه بنفسه واشتبك معه عن قرب، وفيه تعرض للحصار الشهير في الفالوجة، ومن المؤكد أن ما عايشه عبد الناصر في فلسطين هو ونفر من الضباط والجنود الوطنيين، كان من اهم اسباب الثورة المصرية والتغيير الشامل الذي عرفه العالم العربي على أثرها.

نحن الآن لسنا بخير، وهذه حقيقة واضحة، فالانقسام واضطراب البوصلة، وارتباك الخيارات السياسية والنضالية، والأزمات الداخلية، واتساع الفجوة بين النظام السياسي الفلسطيني بكل مكوناته وبين الناس، وتراجع مكانة القضية الفلسطينية، في مقابل اشتداد هجمات الاحتلال لتنفيذ مخططات الضم والتهويد وتقويض فرص قيام دولة فلسطينية، كلها مؤشرات على تردّي أوضاعنا، ولا ينفع مع هذه الحالة تبادل الاتهامات ولا الإغراق في التحليل والتشخيص لأن مهمة القيادات تتمثل في قيادة الشعب نحو التغيير وليس الاكتفاء بوصف ما يجري.

لم تكن "فتح” هي المجموعة الفدائية الأولى التي تتبنى الكفاح المسلح بعد النكبة، ولكنها كانت الحركة الأولى التي ربطت هذا الكفاح باستعادة الهوية الفلسطينية في مواجهة محاولات الشطب والتبديد، فقد كان شطب الهوية هو المكمّل الذي أرادته القوى المعادية لاستكمال نكبة فلسطين باحتلال الأرض واقتلاع الشعب وتشريده، وظل هذا الأمر قائما حتى انطلاقة حركة فتح باسم الشعب الفلسطيني في الأول من كانون الثاني عام 1965.

وما دامت حركة فتح تحمل أوسمة المجد لما مثلته في حياة الشعب الفلسطيني، خصوصا دورها الذي لعبته في استعادة الهوية الوطنية والمساهمة في انبعاثها من الرماد، وتسلم الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية زمام قضيته ونضاله من اجل حق تقرير المصير، فمن الطبيعي أن تتحمل فتح بقياداتها وممؤسساتها، المسؤولية الكبرى عما آلت إليه الأوضاع. ولعل نقطة الانعطاف الحاسمة في هذا المسار هي المرحلة التي تلت تطبيق اتفاق أوسلو وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية، وما رافق هذه العملية من ممارسات وأوهام، بسبب انخراط قيادة فتح وكوادرها الرئيسيين في مهام إدارة المجتمع والسلطة، والكل يعرف أن المهام والمسؤوليات الرئيسية في السلك الدبلوماسي والمناصب العليا في السلطة بمختلف أجهزتها الأمنية والإدارية تولاها كوادر محسوبون على حركة فتح، وبالتالي اقترن أداؤهم، أو سوء أدائهم، بالحركة التي انتدبتهم لهذه المهام.

في معظم المجتمعات التي تتحرر من الاستعمار، ينشأ التناقض والتنافر بين المهام التي تقتضيها الثورة، والمهام التي تقتضيها الدولة والسلطة، فالأداء النضالي المتميز لا ينعكس بالضروة على الأداء الجيد في إدارة المجتمع. ولكن في حالتنا الفلسطينية نشأ هذا التنافر قبل أن تنجز ثورتنا أهدافها الوطنية في التحرر والاستقلال، كما راجت أوهام وثقافة جديدة عن مرحلة بناء الدولة التي ترجمها البعض إلى بناء الذات، ورأينا كثيرا من المناضلين والسياسيين يتسابقون في الحصول على الوكالات التجارية والشراكة مع رجال الأعمال في إقامة المشاريع الاستثمارية، وكل ذلك انعكس سلبا على مكانة الثورة وقيادتها وبشكل خاص على حركة فتح.

ليس بالضرورة أن يؤثر نشوء ونهوض حركات فلسطينية جديدة سلبا على مكانة حركة فتح، بل على العكس يفترض أن يمثل التنافس الإيجابي وصعود حركة حماس والنهوض المأمول لليسار والتيار الديمقراطي، عوامل تحد لحركة فتح لكي تحسّن من أدائها على الصعيدين الوطني والاجتماعي، تماما مثلما تشكل خسارة الانتخابات فرصة للمراجعة والتقييم من اجل تحسين الأداء.

من المؤكد أن حركة فتح بحاجة إلى مراجعة وتقييم شاملين لكل الأداء السياسي والبرنامج والأوضاع التنظيمية، وهذا لم يتحقق على الأغلب لا في المؤتمر السادس (2009)، ولا في السابع (2016) اللذين عقدا في الوطن بعد قيام السلطة، والدليل هو استمرار التعثر في أداء الحركة، ووقوع انشقاقات معلنة أثناء تسجيل القوائم لانتخابات المجلس التشريعي التي ألغيت، والبرهان الأكبر والأهم هو أزمة الحركة الوطنية بشكل عام، واستمرار وجود آلاف الكوادر الفتحاوية خارج الجسم الفاعل والناشط للحركة. ولا يبدو أن خطوات تقييم جدية اتخذت تحضيرا للمؤتمر القادم المقرر في الربع الأول من هذا العام، وذلك ما يفقد المؤتمر كثيرا من أهميته ويحوله إلى مجرد مناسبة لإعادة توزيع المناصب والمواقع.

أخيرا فإن الحرص على فتح هو أيضا حرص على استعادة الحركة لدورها، وحرص على "ديمومة الثورة” ومدخل ذلك هو من دون شك المراجعة التفصيلية والتقييم الجريء والمسؤول حتى لو تأخر المؤتمر بضعة شهور أخرى.