"سيناريوات خطيرة" ... الزيت الروسي على النار الأوكرانية "هوس يرعب العالم" !
أخبار البلد ــ ارتدى الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي خوذة وسترة واقية من الرصاص، وهو يتجول على خطوط الجبهة، في تحدٍ للقوات الروسية التي تحتشد على حدود بلاده والانفصاليين المدعومين منها، في شرق البلاد. لكن جنرالات أوكرانيين أكدوا أنه لو اختارت روسيا غزو بلادهم فإنها لن تصمد، من دون مساعدة من الغرب؛ لدرجة أن الجنرال كيريلو بودانوف رئيس المخابرات العسكرية الأوكرانية قال لصحيفة "النيويورك تايمز": "لسوء الحظ، لا موارد عسكرية كافية لصد هجوم روسي كاسح، من دون دعم غربي". وأوضح بودانوف أن "الاجتياح سيبدأ بغارات جوية وهجمات صاروخية مكثفة، تصبح بعدها قيادة الجيش الأوكراني عاجزة، وسيصمد جنوده ما بقي رصاص في حوزتهم"، لكنه أضاف بأسىً: "صدقوني من دون مساعدة حقيقية، لا جيش في العالم يمكنه الصمود!" ... فإلى أين يقود الهوس الروسي بأوكرانيا العالم الذي يحبس أنفاسه تحاشياً لأزمة تبدو بلا نهاية قريبة!.
حدود الأزمة
تجسد الأزمة بين أوكرانيا وروسيا مشاعر العداء والكراهية المتجذرة، والرغبة الدفينة في الثأر ورد الاعتبار التي تملأ فضاء شعوب جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق تجاه روسيا الاتحادية التي ورثته، وتحاول راهناً بعث الروح في دوائر نفوذه القديمة في دول أوروبا الشرقية، كوسيلة لإحياء مكانة روسيا عالمياً. في تموز (يوليو) الماضي، كتب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مقالاً، قال فيه: "إن روسيا تعرضت للسرقة، أوكرانيا ليست دولة مستقلة وهي جزء لا يتجزأ من روسيا روحاً وثقافة". تعتبر موسكو أوكرانيا جزءاً من حزامها الأمني، وحاول بوتين على مدى عقدين إعادتها إلى المدار الروسي، وما زالت أبرز البنود غير المنجزة على جدول الرئيس الروسي، كي تمثل أهم ميراث له، استراتيجياً وجيوسياسياً. تحظى أوكرانيا ومنطقة البحر الأسود بأهمية استثنائية في تحقيق المصالح الاقتصادية الروسية، فالبحر الأسود هو المياه الدافئة الوحيدة التي تستطيع السفن الروسية المرور بها شتاء، وصولاً إلى أوروبا والمتوسط ثم العالم.
ومن هنا يمكن فهم التهديد العسكري والضغوط الروسية المتنامية، لقطع الطريق على أي محاولة من جانب أوكرانيا للتحالف عسكرياً مع الغرب أو الانضمام إلى حلف "الناتو". طالب بوتين نظيره الأميركي بضمانات صارمة بهذا الشأن، ودعا قادة ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وفنلندا والنمسا إلى إطلاق مفاوضات فورية مع الولايات المتحدة وحلف الأطلسي لتحديد الضمانات القانونية لأمن روسيا، لمنع "الناتو" من التوسع شرقاً أو نشر منظومات أسلحة تهدّد روسيا في أوكرانيا ودول أخرى مجاورة".
تتصدر الأزمة الأوكرانية المشهد العالمي، تظهر المرتكزات المذكورة أن الفعل الروسي ومداه يتوقفان على تكاليف التصعيد العسكري المزمع، ورد الفعل الداخلي والدولي عليه. أكد الباحث في "مركز الأبحاث الأمني" مايكل هوفمان، أن الحشد العسكري الروسي الحالي هو الأكبر منذ حرب القرم عام 2014، وأنه يتعدى فكرة تهديد أوكرانيا، وإلا لاستخدمت روسيا قوة أصغر، مؤكداً أن موسكو ترغب في فرض أجندة مصالحها السياسية على الغرب في المنطقة. وأشار هوفمان إلى أن خفض التصعيد من جانب روسيا، من دون تحقيق مكاسب حقيقية، سيكون خسارة كبيرة لها"، وفي تلك الحال فإن الاجتياح الروسي يبدو وارداً بقوة. وفي حين قالت واشنطن، إنها مستعدة لمباحثات جادة مع موسكو، أكد نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف، أن بلاده مستعدة للرد "عسكرياً"، لو واصل "الناتو" تجاهل مخاوفها الأمنية. وكأنه يخيّر الغرب بين الاستجابة للمطالب الروسية أو الاجتياح العسكري.
سيناريوات خطيرة
سيناريوات كثيرة للتدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، منها الغزو الشامل لكل الأراضي الأوكرانية، وهو أقلها احتمالاً، لأنه سيكون محفوفاً بمخاطر شديدة، ومكلفاً للغاية بالنسبة إلى روسيا، فالغرب لن يظل متفرجاً عندئذ، ما قد يفتح الباب لهزيمة موسكو. ومثله احتلالها الساحل الأوكراني من دونيتسك إلى مولدوفا بما في ذلك أوديسا، وإذا نجحت روسيا في ذلك ستتحوّل أوكرانيا إلى دولة غير ساحلية، وستفقد ما يصل إلى نصف أراضيها، وقد يكون من الصعب التمسك بها عسكرياً، كما أن الرد الغربي سيكون قاسياً. السيناريو الثالث هو استيلاء روسيا على المنطقة التي يتمركز بها الانفصاليون المتحدثون بالروسية على طول الساحل، من دونيتسك إلى القرم على بحر آزوف، ما يعني ربط شبه جزيرة القرم براً بروسيا ... هنا من غير المرجح أن يُرسل الغرب قوة عسكرية لدعم الجيش الأوكراني، لكن سيرسل شحنات أسلحة. أما السيناريو الأخير، فيتمثل بقيام الانفصاليين في دونباس بإعلان الانضمام إلى روسيا، وهو أقل الخيارات صدامية وحدّة.
على الصعيد الروسي-الأميركي، بات كل شيء أكثر وضوحاً؛ هناك نسخة جديدة من المواجهة في أوروبا منذ نحو ستين عاماً، لكنها تحولت إلى الشرق، من ألمانيا الشديدة التنظيم، وإن كانت منقسمة، إلى أوكرانيا الفوضوية، ذات الأحداث المفاجئة دائماً، النقطة الرئيسية في كل الأوضاع هي عدم وجود شكل واضح للمواجهة.
تهديدات قوية
توالت التهديدات القوية من جانب واشنطن ومعظم العواصم الأوروبية الرئيسية لموسكو أنه في حال اجتياح أوكرانيا، فإنه سيجري توسيع العقوبات الاقتصادية على روسيا بصرامة، مثل تجميد الأصول أو حظر كل المعاملات عبر نظام "سويفت" المالي، ناهيك بحرمانها من الوصول إلى أسواق المال العالمية والتكنولوجيا المتطورة؛ ما يؤثر بشدة في قدرة الاقتصاد الروسي الذي يعاني بالفعل، بسبب العقوبات القديمة وجائحة كورونا، ومن أجل ذلك عقد بوتين قمة افتراضية مع نظيره الصيني، لتأمين الدعم والمساندة، كما قام بزيارة إلى الهند. فالعملاقان الآسيويان من أهم شركاء روسيا اقتصادياً واستراتيجياً.
تمثل الأزمة الأوكرانية إحدى أخطر الأزمات الدولية، في ظل نظام جيوسياسي سائل، يشجِّع على السياسات الخارجية المتهورة، ويرفع فرص المواجهة العسكرية في بؤر التوتر الساخنة في العالم، بما يؤشر الى إمكان انزلاق الكوكب إلى حرب عالمية شاملة. تستنجد أوكرانيا بالغرب: الولايات المتحدة وأوروبا و"الناتو" لدعمها في الرد على التهديد الروسي، ومحاولة غزوها وتفكيكها بفصل إقليمها الشرقي عنها. لا تحب كييف الغرب بقدر ما تكره روسيا وترفض سياسات بوتين؛ من منطلق أن تقارب أوكرانيا مع الغرب أفضل الخيارات السياسية والاستراتيجية والأمنية المتاحة، في هذه الظروف الحرجة التي تجعلها في وضع لا تحسد عليه... ومن هنا، فان انضمام أوكرانيا أو ما قد يتبقى منها إلى "الناتو" قد يكون مسألة وقت، كما تؤشر بذلك قرارات وزراء خارجية مجموعة الدول السبع الكبرى، في ليفربول ببريطانيا، أخيراً، لتلحق بركب دول أوروبا الشرقية التي سبقتها إلى هذا الحلف الذي يضم في عضويته ثلاثين دولة، والذي يُعد الأكبر والأقوي والأطول عمراً في التاريخ.
وفي هذا الشأن يوضح أستاذ العلوم السياسية الدكتور إسماعيل صبري مقلد أن الجذور النفسية الكامنة تحت السطح في سلوكيات وسياسات الدول يمكن أن تفرز نتائج وتداعيات هائلة، إن ما يجري هناك مرجعه الرعب الأوكراني من السقوط مرة أخرى في براثن سيطرة روسية، مثلما كانت تعاني تحت الحكم السوفياتي في الماضي، ودفعت ثمناً من حريتها واستقلالها وكبريائها القومي ومن إحساسها بذاتها، وقبل هذا كله من حقها في تقرير مصيرها ومستقبلها. تبدو الحالة الأوكرانية واحدة من بين حالات أخرى، تجد أساسها في كثير من الأحيان في حقائق نفسية راسخة تحفل بها ذاكرة التاريخ القريب والبعيد... الذي يفسر الغامض ويكشف المستور!