فرنسا: انتخابات رئاسية وأجندة عنصرية

أخبار البلد-

 
متابعة الحملات الانتخابية لمرشحي الرئاسة الفرنسية، هذه الأيام، تُعيد إلى الأذهان ما قاله، في فترة السبعينات من القرن الماضي، رئيس الوزراء الصيني آنذاك شوان لاي، رداً على سؤال وجّهه إليه وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، حول رأيه في الثورة الفرنسية. كان جوابه: «ما زال الوقت مبكراً للحُكم عليها». وعلى ما يبدو، فإن تلك الإجابة، على غرابتها، لم تكن تخلو من حكمة، وإن تحوّلت إلى موضوع سُخرية في وسائل الإعلام الغربية.
الثورة الفرنسية - 1789 - ليست في حاجة إلى تذكير بمبادئها وشعاراتها، أو هذا، على الأقل، ما كنّا نظنّه لأعوام طويلة. إلاّ أن الحال تغيّر لدى انطلاق الحملات الانتخابية، في مختلف مدن ومناطق فرنسا، استعداداً لمعركة الرئاسة في شهر أبريل (نيسان) القادم. الثورة الفرنسية التي هزّت، لدى انفجارها، أركان العالم الإقطاعي في كل أوروبا، صارت هذه الأيام غريبة في موطنها وبين أهلها. ومن لا يصدق، عليه متابعة ما يصدر عن بعض المرشحين من تصريحات وبيانات عنصرية مقيتة.
 
المرشحون المؤمّل وصول أحدهم إلى سدة الحكم، وفقاً لاستبيانات الرأي العام، يصطفّون ابتداءً من يمين الوسط وحتى أقصى اليمين. وليس لليسار الفرنسي المعروف، ممثلاً في الحزب الاشتراكي، سوى حضور باهت. والصراع، وفقاً للتقارير الإعلامية، يزداد حِدّة، وتزدادُ معه سوق المزايدات بين أغلب المتنافسين. وترتفع فيه كذلك أسقف الوعود الموجّهة إلى الناخبين، ويتعالى الوعيد ضد الهجرة والمهاجرين، خصوصاً من عرب شمال أفريقيا. ولأن الغاية تبرر الوسيلة، فإن المرشحين أبدوا استعداداً لإغفال تاريخ ثورة بلادهم، ومبادئها، وشعاراتها، فبدوا، باستثناءات قليلة، كأنهم خارج المكان والزمان.
شهر يونيو (حزيران) 1940 تاريخ لا يُنسى في فرنسا. في الأسبوع الأخير منه، وقّع القادة العسكريون على اتفاقية هزيمة بلادهم في الحرب أمام ألمانيا. ووفقاً لبنود تلك الاتفاقية، قُسّمتْ فرنسا شطرين؛ يكون الأول خاضعاً لسيطرة الاحتلال الألماني، والآخر تحت تصرف الفرنسيين وبسيادة فرنسية - اسمية طبعاً. الجزء الفرنسي المستقل كان في جنوب شرقي فرنسا، ممتداً من الحدود السويسرية قريباً من جنيف، حتى يصل قريباً من مدينة تورز - Tours، ثم ينحرف نحو الجنوب الغربي حتى الحدود الإسبانية. في تلك الرقعة من الأرض ظهرت في شهر يوليو (تموز) 1940 دولة فرنسية، في بلدة اسمها «فيشي»، تحت قيادة الجنرال فيليب بيتان، وانتهت في شهر سبتمبر (أيلول) عام 1944، وبدلاً من شعارات الثورة الفرنسية (الحرية - المساواة - الأخوة) رفعتْ دولة فيشي شعار (العمل - العائلة - الوطن).
وإذا كان من الصعب، عادةً، اتفاق المؤرخين على تفسير حدث تاريخي، فإنهم اتفقوا بإجماع على عمالة تلك الدولة المصطنعة للاحتلال الألماني، ووثّقوا تعاونها مع الإدارة النازية في مطاردة اليهود الفرنسيين وغير الفرنسيين، والقبض عليهم وترحيلهم إلى معسكرات الإبادة في بولندا. المرشح للرئاسة إريك زيمور - وهو يهودي الديانة ومُعلق تلفزيوني جدلي - حاول، خلال حملته الانتخابية، بل قبلها أيضاً، إعادة كتابة التاريخ، بما يستجيب وميوله السياسية، وميول أنصاره. زيمور مرشح مستقل، ويتخندق في أقصى اليمين سياسياً، وهدفه من دخول سباق الرئاسة، كما يؤكد، هو تحرير فرنسا من المهاجرين العرب والمسلمين الذين يريدون تراثاً إسلامياً عوضاً عن تراثها التاريخي المسيحي. الغريب، أن هناك ليبراليين فرنسيين تواطأوا بصمتهم تضامناً مع تلك الجوقة العنصرية المقيتة، الأمر الذي اضطر الرئيس إيمانويل ماكرون، خلال الأيام الماضية، إلى التدخل على أمل رد الأمور إلى نصابها، وقيامه بزيارة إلى مدينة فيشي، ألقى خلالها خطاباً فنّد فيه ما يروّجه بدوافع سياسية المرشح زيمور من مغالطات تاريخية. وللعلم، واستناداً إلى التقارير الإعلامية، فإن الرئيس ماكرون كان أول رئيس فرنسي يزور فيشي منذ أربعين عاماً. ومن المهم الإشارة كذلك، إلى أن تلك الزيارة لم تحفزّ أياً من المرشحين الآخرين - حتى الآن - على الاقتداء به، والذهاب إلى فيشي.
سيطرة أجندة الهجرة والمهاجرين، وبنبرة عنصرية على الانتخابات الرئاسية الفرنسية الحالية ليست جديدة تماماً، بل تكاد تكون سمة من ضمن سمات عديدة عموماً. لكن، هذه المرّة، فإن ارتفاع حدة العداء ضد المهاجرين عموماً، والعرب والمسلمين منهم خصوصاً، لم يعد حكراً على حزب الجبهة الوطنية سابقاً، التجمع الوطني حالياً، الذي تقوده السيدة ماري لوبان. وخلال الحملات الانتخابية الحالية، تبارى المرشحون في تفصيل ما سيُنزلونه بالمهاجرين من شرور، في حالة وصولهم لقصر الإليزيه. وظل المرشح زيمور أبرزهم بوضوح، وبشكل جعل السيدة لوبان تبدو كأنها ليبرالية. المفارقة، أن أسهمه شعبياً - وفقاً لاستبيانات الرأي العام - تزداد ارتفاعاً مع تزايد نبرته العنصرية عُلوّاً وغُلوّاً.