من إشاعات «القِلّة المندسة»... إلى الحروب السيبرانية

أخبار البلد-

 
منذ شبابنا المبكر سمعنا وقرأنا في العراق عن الطابور الخامس. وكنا نظن أنه أحد طوابير الحصول على البيض من الجمعية، أو التسجيل على شراء سيارة، أو طابور إصدار جوازات السفر، أو طابور شهادات عدم المحكومية، وهذه الشهادة كانت أهم من شهادة الدكتوراه لدى عامة الناس؛ فهي تقرر مصير أي شخص يرغب في الحصول على عمل في الوظائف العامة، أو التطوع في الجيش والشرطة أو الالتحاق بإحدى الوظائف في الوزارات والهيئات الحساسة. وشاع في سنوات الانقلابات تعبير «القلة المندسة» الذي سرعان ما تحول إلى نكتة سياسية تعني الأشخاص المعقدين أو المنعزلين أو الفاشلين في الحب.
ثم اكتشفنا أن المسألة أخطر من ذلك بكثير، فهي تعني طابور التجسس على معلومات سرية عن الدولة أو طابور بث الإشاعات والفتنة السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية. وكان بعض الصحافيين المبتدئين يخلط بين الطابور الخامس والأسطول الأميركي السادس الذي كان في الخمسينات والستينات، وربما حتى الآن، يصول ويجول في البحر الأبيض المتوسط، بالإضافة إلى الأسطول الأميركي الخامس العائم في الخليج العربي وعيونه على إيران بعد أن كانت على العراق قبل غزوه واحتلاله في 2003.
ويقال أن أصل تسمية الطابور الخامس يعود إلى سنوات الحرب الأهلية الإسبانية (1936) واستمرت ثلاث سنوات، ويُقصد به «الوطنيون» الإسبان الذين كانوا تحت قيادة الجنرال فرانشيسكو فرانكو قبل أن يتحول ديكتاتوراً. وتشير التقديرات إلى أن أكثر من مائتي ألف إسباني لقوا حتفهم في السنوات الأولى للديكتاتورية قبل الحرب العالمية الثانية، وبذلك أصبحت إسبانيا ثاني دولة في العالم بعد كمبوديا من حيث عدد المفقودين الذين لم يتم العثور على جثثهم. الآن دخل العرب في تسلسل المفقودين العراقيين والسوريين واليمنيين ولن يتم التعرف إلى أعدادهم قبل أن تستقر الأوضاع في البلدان الثلاثة المبتلاة بفيروس الميليشيات الموالية لإيران. وكان جيش فرانكو يضم أربعة طوابير للثوار، أما الطابور الخامس فهو يضم أنصار فرانكو في الداخل ولهم ميول ماركسية يسارية وقاموا بمهمة جواسيس الجنرال، فترسخت تسمية الطابور الخامس حتى يومنا الحالي. وأوضح مثال أمامنا هو الطابور الإيراني الخامس الذي يضم الميليشيات في العراق والحوثيين في اليمن و«حزب الله» في لبنان، وكلهم موالون لإيران عقائدياً وطائفياً وتنظيمياً، وهي أسوأ الطوابير الخامسة في العالم.
لكنّ مهنة الجواسيس لم تعد مقتصرة على الدول؛ فقد تحولت إلى التجسس على الأفراد، خصوصاً أولئك الذين يحتلون مناصب مهمة في قمة الدولة أو قيادة الجيش أو الأجهزة الأمنية والصحافيين والإعلاميين. ولم يعد الجاسوس يجلس في المقهى وبيده صحيفة مثقوبة من وسطها وأمامه فنجان قهوة. أسلوب التجسس الجديد الذي يواكب العصر هو برنامج إلكتروني سيبراني يخترق هاتفك الشخصي للحصول على أسرار ومعلومات حساسة أمنية أو شخصية أو اقتصادية أو سلوكية أو رقمية. وقرأنا في الصحف قبل شهرين أن شركة إسرائيلية ضبطت مجموعة تجسس إيراني سيبراني في الأرض المحتلة ضد إسرائيل. وفي المقابل قرأنا قبل أسابيع عن خلية تجسس سيبراني إسرائيلي ضد إيران. واتضح أن الشبكة الإيرانية سعت إلى سرقة معلومات حساسة والتجسس على أهداف مختلفة في إسرائيل والشرق الأوسط والولايات المتحدة وأوروبا عن طريق نقل البيانات المشفرة والتكنولوجيا الجوية وبحوث الفضاء. وفي الإطار نفسه أعلنت «وكالة أنباء فارس» عن قيام إسرائيل بالتجسس السيبراني على إيران بقيادة جنرال عسكري له خبرات في الاستخبارات والمراقبة الإلكترونية وفك التشفير. وهو خبير في الشؤون الإيرانية وإدارة تهديدات المعلومات والبنية التحتية للأخبار المزيفة والأمن السيبراني وباحث في البرمجيات الضارة ومحقق في القرصنة الإلكترونية. بمعنى أنه عالم في فضاء التجسس، لكن إذا كان الإيرانيون بهذا المستوى في علم الإلكترونيات السيبرانية، لماذا لم يتوصلوا حتى اليوم إلى كيفية قتل الإرهابي قاسم سليماني قائد فيلق القدس على أسوار مطار بغداد الدولي بهذه السهولة والمهانة؟ وكذلك أسرار عمليات الاختراق السيبرانية وارسال فيروسات خبيثة لأجهزة منشآت تابعة لبرنامجهم النووي.
ولأن العلوم تتطور مثل «كورونا»، فقد سمعنا وقرأنا عن برمجيات تجسسية سرّية تحت تسمية «بيغاسوس» قادرة على قراءة الرسائل النصية وتتبع المكالمات وجمع كلمات السر وتحديد مكان الموقع أو الهاتف وخزن التطبيقات. وأول الضحايا في هذا التطور هواتف «آيفون» المعروفة بقوة حمايتها لبيانات المستخدم مقارنةً بأنظمة تشغيل أخرى.
تقول المعلومات المتوفرة إن هذا البرنامج التجسسي السحابي لا يعمل من تلقاء نفسه، بل يستهدف المستخدم من خلال دفعه بطريقة معينة إلى النقر على رابط معين لتحميل «بيغاسوس» لقراءة الرسائل النصّية ورموز المرور وتتبع مكان الهاتف. وللأسف استطاعت عصابات المخدرات المكسيكية استهداف صحافيين مكسيكيين وجهات حكومية. وصرنا نقرأ في الصحف عن كشف عمليات تجسس مزعومة على معارضين ونشطاء باستخدام هذه التقنية التي تشارك المقصودين معلومات هواتفهم الشخصية.
هي حرب سيبرانية بين أنظمة مختلفة، ولسان حال المواطن العادي: «نحن في المنتصف محتجزون كسجناء» ويدفع المجتمع والدولة الثمن ولا يعرف أحد مَن الفاعل.
الجديد في الاكتشافات أن شركة أمن سلوفاكية كشفت الشهر الماضي عن حملة هجمات إلكترونية محددة الأهداف في الشرق الأوسط مرتبطة بشركة إسرائيلية متخصصة في هذا الشأن أدرجتها الولايات المتحدة الأميركية على القائمة السوداء لخطورتها وتعريضها الضحايا لأضرار مواقع إلكترونية ذات شفرة مفخخة. وتُعد إسرائيل من اللاعبين الأساسيين في برنامج «بيغاسوس» التجسسي الذي طوّرته تل أبيب، وكذلك شركة روسية وأخرى سنغافورية، بالإضافة إلى الاحتراف الإيراني في هذه التكنولوجيا العدائية سلماً أو حرباً، ولا يَسلم منها طبعاً الأفراد الذين يتولون مناصب مهمة وحساسة ومعلوماتية.
ومن جانبها أعلنت شركة «مايكروسوفت» المتخصصة في تقنيات الحاسوب، أن قراصنة يُشتبه في صلتهم بإيران استهدفوا شركات تكنولوجيا عسكرية تتعامل مع حكومات الولايات المتحدة وإسرائيل ودول أخرى في الاتحاد الأوروبي. وذكرت الشركة أن مركز النشاط الإيراني هو موانئ الخليج العربي، ودعت الأسطول البحري الأميركي لرفع مستوى شبكة دفاعاته رداً على هذه التهديدات التي تشمل أيضاً أنظمة الأقمار الصناعية وتكنولوجيا الطائرات من دون طيار «درون» والرادارات العسكرية.
الأمان الشخصي غير مضمون، وقد تخترق برامج خبيثة الهواتف الشخصية والتجسس على الهواتف الخاصة، ومن المؤكد أن الشركات الخاصة ذات الطبيعة الأمنية ليست بعيدة عن المخاطر، وفي يوليو (تموز) الماضي طال هجوم إلكتروني نحو 20 شركة أميركية، وقالت الوكالة الفيدرالية الأميركية للأمن الإلكتروني إنها اتخذت إجراءات للتعامل مع هذه التهديدات. حتى حساب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب على «تويتر» اخترقه باحث هولندي في الأمن السيبراني. وصرح الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن قبل أشهر بأنه سلم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قائمة تتضمن 16 قطاعاً أميركياً حيوياً للبنى التحتية تمتد من الطاقة إلى المياه قد تتعرض لهجمات إلكترونية، وأن على بوتين مسؤولية وقف هذه الهجمات الإلكترونية، إذا صحّت أنها تهديدات روسية.
تحتل الولايات المتحدة المركز الأول سيبرانياً في العالم، تليها روسيا وأستراليا وكندا والصين وفرنسا وإسرائيل والمملكة المتحدة. ويقوم هذا الترتيب على سبعة معايير هي: الاستراتيجية والعقيدة، والإدارة والقيادة والسيطرة، وقدرات الاستخبارات السيبرانية، والاعتماد على الفضاء السيبراني، والأمن الإلكتروني، والريادة في الفضاء السيبراني، والقدرات السيبرانية الهجومية. وتلي تلك الدول الهند وإندونيسيا وإيران واليابان وماليزيا وكوريا الشمالية وفيتنام، لكن هناك ملاحظات سلبية على هذا التصنيف من بينها الانحياز إلى الأنغلوسكسونيين مع أن أستراليا وكندا ليست لهما أهمية كبرى في الأمن السيبراني، كما يقول الخبير السيبراني في مجال الأمن إيغور أشمانوف. كما أن الترتيب استبعد دولاً متقدمة مثل ألمانيا وكوريا الجنوبية ودولاً عربية وأفريقية، وهو ما يؤاخَذ عليه المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية الذي أعد هذا التصنيف.
بينما ذكر مؤشر الاتحاد الدولي للاتصالات التابع للأمم المتحدة أن أميركا تصدرت الترتيب بـ100 درجة تليها بريطانيا في المركز الثاني بـ99.54 درجة، ثم المملكة العربية السعودية في المركز الثاني مكرر بـ99.54 درجة، وهو المؤشر الأكثر أهمية في الأمن السيبراني والسياسات التنظيمية والتشريعات وبناء القدرات البشرية والتقنية والفنية اللازمة. ولا أثر في كل هذه المعايير لما كنا نسميها «القلة المندسة» أو الطابور الخامس؛ فهذا زمان وذاك زمان آخر.