الديمقراطية المستنسخة وتشوهاتها

أخبار البلد -منذ أن تأسست معظم الكيانات السياسية الحديثة في الشرق الأوسط بعد اتفاقية سايكس بيكو، عملت غالبية النخب ومفكريها وواجهاتها من القوى والجمعيات والأحزاب السياسية يميناً ويساراً، على استنساخ التجربة الديمقراطية الغربية ومحاولة تطبيقها في تلك الكيانات التي أنتجتها توافقات غربية ومصالح الدول المنتصرة في الحربين الأولى والثانية، بعيداً عن الخوض في التراكم القيمي الديني والاجتماعي المتوارث.


ورغم الكم الهائل من الخسائر الفادحة التي مُنيت بها تلك القوى، فإنها لم تحقق الحد الأدنى لطموحاتها في تحويل تلك الكيانات إلى دول مواطنة يتمتع فيها الإنسان بحريته الكاملة في الرأي وتقرير المصير والعقيدة والانتماء، ولعل تجارب تركيا ولبنان وإسرائيل كانت النموذج الأقرب الذي يحتذى، لولا أنه اصطدم بإرث هائل من تراكمات قبلية ودينية ومذهبية جعلت هذه التجارب، وبعد سنوات ليست طويلة في حقل التجارب القلقة، الأقرب إلى الفاشلة، حيث تمزق لبنان بين القبائل والطوائف، بينما غرقت تركيا في عنصرية تسببت في مقتل وتهجير الكثير من الأرمن والكرد على خلفية مطالبتهم بأبسط حقوقهم الإنسانية والديمقراطية، وفي إسرائيل التي بشَّرَ الكثير من مفكريها وسياسيي الغرب بأنها نموذج الديمقراطية الغربية في الشرق الأوسط، فإذ بها تتحول إلى دولة عبرية عنصرية مقيتة في تعاملها مع سكانها من غير اليهود.

لقد تعاونت دول الديمقراطيات العريقة في أوروبا وأميركا مع قوى المعارضة بمختلف أشكالها ومشاربها لإحداث تغيير عمودي في تلك الأنظمة، واستطاعت وبدعم استراتيجي عسكري وأمني اختراق جدرانها الداخلية وتحطيم هياكلها الإدارية مستغلة العداء الشعبي لتلك الأنظمة، كما حصل في كل من العراق وليبيا واليمن وسوريا، حيث تدخلت الدول العظمى بشكل مباشر في إسقاط تلك الأنظمة أو تدجينها، ومن ثم الانتقال فوراً إلى استنساخ تجاربها الديمقراطية في بيئة لا تتقبل هذا النمط من الحياة لأسباب كثيرة لا يتسع المجال للخوض فيها هنا، فقد ساد الهرج والمرج في برلمانات ما بعد الديكتاتوريات التي أسقطتها الولايات المتحدة والتحالف الدولي، وغدت تلك البرلمانات مجالس للقبائل ومنابر للمذاهب، وسوقاً للمال والسحت السياسي الداخلي منه والخارج، وهذا يؤكد أن محاولة استنساخ دولة ديمقراطية تقوم على أعمدة النظم الغربية، في مجتمعات تعتمد في أسس حياتها التربوية والاجتماعية على منظومة عادات وتقاليد وأعراف شبه مقدسة، وتمتد لمئات السنين مرتكزة على تفسيرات دينية أو قبلية، خصوصاً فيما يتعلق بالرمز، ابتداءً من الأب وشيخ القبيلة ورجل الدين وانتهاءً بالزعيم الأوحد، المتجلي في رمز الأمة والمأخوذ من موروثات تاريخية متكلسة في الذاكرة الاجتماعية والتربوية، ستنتهي حتماً إلى نظام مسخ أقرب للديكتاتورية، ولكن بأدوات ديمقراطية كما يحصل الآن في انتخابات العراق وإيران وتركيا وليبيا وسوريا وبقية دول المختبر السياسي الديمقراطي في الشرق الأوسط، حيث أزالت الولايات المتحدة وحلفاؤها هياكل بعض تلك الأنظمة الشمولية، مدعية أنها تضع خريطة ديمقراطية جديدة للشرق الأوسط وتعمل من أجل استنساخ تجاربها على أنقاض تلك الخرائب، دونما إدراك للكم الهائل من العادات والتقاليد والقيم والعقائد المتكلسة عبر حقب زمنية طويلة جداً، وفي مجتمعات تعاني أصلاً من الأمية بشطريها الأبجدي والحضاري، ولا تزال تعتبر القبيلة ورموزها أهم ألف مرة من الشعب والدولة، وكذا الحال بالنسبة للدين والمذهب حيث لا ينافسهما أي انتماء، والغريب أنها لم تدرك كيف ستكون مؤسساتها الدستورية والديمقراطية وآلية انتخاب أعضائها على خلفية ذلك الموروث، وما يحصل في العراق وبقية دول المختبر الديمقراطي سبق أن استخدمته النظم الديكتاتورية، حيث يتم تجييش القبائل وملحقاتها والرموز الدينية والمذهبية والسحت الحرام، بعيداً عن أي مفهوم مشترك للمواطنة الجامعة وذلك لإيصال مجموعاتها إلى قبة البرلمان، الذي تحول إلى ما يشبه (مجلس قيادة الثورة) أو القائد الضرورة في النظم السابقة.

ومن هنا نستنتج أن أي تغيير خارج التطور التاريخي للمجتمعات بأي وسيلة كانت، سواء بالثورات أم الانقلابات أم التغيير الفوقي من قبل قوى خارجية لن يعطي نتائج إيجابية بالمطلق بل سينعكس سلباً، وربما يؤدي إلى مردودات كارثية على مصالح البلاد العليا على مستوى المجتمع أو الفرد ولسنوات طويلة جداً، وهذا ما حصل ويحصل اليوم في العراق وليبيا واليمن وسوريا، حيث يتم فرض مجموعة من الصيغ والتجارب الغربية في بناء نظام سياسي واجتماعي بعيد كل البعد عن طبيعة تلك المجتمعات ووضعها الحالي، وخصوصاً ما يتعلق بالنظام الاجتماعي والتربوي والقيمي لمجتمعات هذه الدول، ولعل الأهم هو أن صيغة الديمقراطية الغربية ليست بالضرورة أن تكون اليوم هي الحل أو العلاج الأوحد لمشكلات هذه الدول ومجتمعاتها التي تختلف كلياً عن المجتمعات الغربية في الموروثات الاجتماعية والدينية، ومنظومة العادات والتقاليد والأعراف التي تتقاطع في مفاصل كثيرة مع الصيغ الأوروبية لتطبيقات الديمقراطية.