حول هوية «المجتمع» الوطنية
أخبار البلد - ُيثار بين فترة وأخرى نقاش حول موضوع الهوية في الاردن،
وخصوصًا في أوساط النخب والمثقفين، مع أنني ال أرى هذا
الموضوع جاذبًا الاهتمام عامة الاردنيين، الذين يعيشون حياة
واحدة، بهموم وتطلعات واحدة، على كل تنوعاتهم الخاصة
دينية كانت أو مكانية أو عرقية.
وأخاُل أن هذا الموضوع بالنسبة اليهم هو هامشي، وليس ذو أولوية، مقارنة مع التحديات
والاسئلة الكبرى والاجابة عليها لاخراج البلاد من مأزقها الاقتصادي/ الاجتماعي المركب،
الذي يضغط على حياة المواطنين، من فقر مدقع وبطالة تجاوزت نسبتها الـ 50 %من هم
في صفوف العمل.
إلا أن إثارة موضوع الهوية مؤخرًا ربما يحتاج إلى نقاش مع الاستعانة بالتاريخ لرصد التبدلات
التي أنتابت هذة الهوية طوال المئةعام الاخيرة.
****
إن هوية المجتمع الاردني قبل قيام الدولة، هي عربية بطبعة أهل بلاد الشام، وقد كان
الاردنيون من أوائل من عبر عن تطلعات هذه الهوية، حيث كانت ثوراتهم تعبيرًا حيويًا
عن تطلعات العرب في الانعتاق والتحرر من تركيا، مثال ذلك ثورة الشوبك 1905 ،وثورة
الكرك 1910 ،إضافة إلى مشاركاتهم البارزة في النشاطات السياسية الوطنية التي مهدت
إلى الاستقلال وأنهاء الاستعمار التركي.
وأن الاتجاه الوطني العروبي، تم التعبير عنه كذلك بأنضواء الاردنيين وبكثافة في صفوف
الثورة العربية وجيش »فيصل«. ونتذكر هنا عبارة لورنس العرب الشهيرة بمناسبة
انضمام البطل عودة أبو تايه والاف الاردنيين للثورة، إن قال: )أصبح للثورة العربية قائدها
»فيصل« وأصبح للثورة محاربها »عودة«(..
****
وأن هوية الاردنيين الوطنية بمرجعيتها العربية قد ترسخت وصارت أكثر حضورًا عندما
ُأبرم العقد التاريخي بين زعامات الاردن والملك المؤسس رحمه الله، حيث ُتبين المراجع من
أن الاردنيين لم يعتقدوا للحظة أن قيام دولة في شرق الاردن هي نهاية المطاف، و كانوا
مع الملك عبدالله المؤسس في سعيه لانجاز وحدة العرب وعلى الالق سوريا الكبرى
والعراق.
وأن تلك الهوية قد عبرت فيما بعد عن نهجها »الفوق وطني« بالمشاركة الفعالة ألبناء
شرق األردن في الدفاع عن فلسطين في مرحلة الثورات الفلسطينية التي سبقت قيام
»إسرائيل« وكذلك إبان حرب 48 حيث كان للجيش العربي الاردني الدور الابرز عربيًا في تلك
المواجهات والحروب.
****
إن هوية الدولة الاردنية العروبية الوطنية، بقيت على عهدها بعد وحدة الضفتين، حيث
قدم الاردنيون والفلسطينيون نموذجًا متقدمًا وتطبيقًا عمليًا ناجحًا لمفهوم الوحدة،
وفي كل المقاييس. وقد كانت بحق، وحدة إندماجية ما كان لها أن تنفصم ُعراها، لولا
احتلال الضفة الغربية عام 1967 ،والحقيقة أن جوهر هذه الوحدة بمضمونه االجتماعي
والثقافي والنفسي ومن حيث تطلعات، بقيت على عهدها إلى اليوم.
إلا أن هوية المجتمع الوطني الاردني، قد طرأ عليها في السنوات الثالثين الاخيرة تبدلت
يمكن أن نصفها بالسلبية، وذلك بفضل عوامل هي في الحقيقة من صنع أيدينا:
1 .إن الخدمة الوطنية الاجبارية وحياة الجندية في الجيش، هي »الاتون« الكفيل بصهر
الشباب في إطار الهوية الوطنية وزرع مفاهيمها في وجدانهم وسلوكهم. وبالتالي فإن
إلغاء أو تأجيل الخدمة الوطنية الاجبارية التي تم في مطلع التسعينات، قد حرم شبابنا
طوال ثالثين سنة من ذلك، فأدى إلى ضعف مفهوم الهوية في نفوس الاجيال الصاعدة.
2 .إن قانون الصوت الواحد قد أوقع أضرارًا على النفسية الاردنية، حيث أصبحت النيابة
مرتبطة بالعشيرة أو العائلة أو المكان الجغرافي الضيق، فأدى ذلك إلى إضعاف مفهوم
المصلحة الوطنية الواحدة والذي أنعكس سلبًا على الهوية الوطنية.
3 .كما أن الحكومات المتعاقبة قد أخطأت حين أنشأت جامعة في كل محافظة تقريبًا،
فقد أدى ذلك إلى أن المواطن يمكن أن يولد في محافظة ما ويتمم دراسته الاساسية
والجامعية حتى الدكتوراة في نفس المحافظة، بل والعمل داخلها أيضًا. مما أدى إلى تورم
الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية. ونشهد الكثير من التعبيرات السلبية التي
نجمت عن ذلك ومنها شغب الجامعات.
****
و أعتقادي أن الملك عبد الله الثاني حفظه الله، عندما أشار عام 2010 الى أهمية الهوية
الوطنية »الجامعة«، فأنه قد أنطلق من رصده لتلك المستجدات السلبية التي ذكرنا
بعضها أعلاه، والتي جعلت من الهوية الفرعية تفوق من حيث أهميتها، الهوية الوطنية
والمصلحة الوطنية العليا. وليس لمفهوم الهوية الجامعة أي أبعاد أكثر من ذلك، ولا
ُيحمل النص أكثر مما يحتمل.
وأعتقد أن ذلك الوضع الاستثنائي هو الذي دفع إلى جانب عوامل أخرى، جلالته إلى أن
يشكل اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، بقصد إعادة الالق والقوة لهويتنا
الوطنية.
وبعد.. أن هويتنا الوطنية، ورغم كل ما يقال، ورغم بعض العوامل السلبية التي أضعفت
كينونتها، فإنها هوية مستقرة، وإن المواطنين الاردنيين يعبرون في المراحل واألحداث
الفارقة عن مدى التزامهم بمصلحة الوطن وتمسكهم بهويتهم الوطنية بمرجعيتها
العربية وبقيم الاسلام وروح التسامح وتوقير الاخر، وأنها هوية متماسكة وتحتاج فقط إلى
معالجة التشوهات الاقتصادية وآثارها الاجتماعية السيئة. و كذلك تحريك المياه الراكدة
فيما يتعلق بالحياة السياسية، والمتمثل كنقطة بدء بمنتجات اللجنة الوطنية لتحديث
المنظومة السياسية، وضرورة استجابة المواطنين لما تضمنت من أفكار تقدمية، وأن
يستجيب الاردنيين لرهان الملك عبد الله الثاني عليهم، بالتعامل بإيجابية مع المرحلة
السياسية التي نحن على مشارفها، وأن يكونوا أكثر تمسكًا بوطنهم وبوحدتهم
الوطنية، ليعمل الجميع معًا من أجل تحقيق ما نصبو إليه جميعًا.
والله من وراء القصد..