تأمّلات خريفيّة حول القبور والمقابر في فلسطين

أخبار البلد-

 

خبر على شاشة "تلفزيون فلسطين” حول انتهاك جماعات صهيونية لحرمة كل من مقبرة "مأمن الله” و”مقبرة "اليوسفية” في مدينة القدس، أثار لدي شجونًا وتأملات كثيرة ذات علاقة بالقبور والمقابر. وتحديدًا، منذ الذكرى الخمسين لنكبة فلسطين عام 1948، شغلني كثيرًا أمر القبور والمقابر في فلسطين، فقد ذهبت في هذه المناسبة الحزينة، وبرفقة عائلتي الصغيرة وبعض الأصدقاء إلى قرية الدامون المهدومة التي هُجِّرت منها عائلتي الكبيرة في بداية صيف ذلك العام الحزين. وكان لدي وقتها ظمأ شديد لمعرفة مكان قبر جدي، والد والدي. ولكن المقبرة كانت مهملة لخمسة عقود، وحجارة القبور فيها كانت مبعثرة، ولم تكن أسماء الموتى منحوتة على الحجارة. فخاب سعيي، وحزنت كثيرًا لعدم قدرتي على تحديد مكان قبر رجل أحمل اسمه، وربما أحمل بعض جيناته وملامحه، دون أن أعرفه. والرجل هذا لم يترك وراءه بعد رحيله صورًا أو كلمات مكتوبة أو أقوالًا مأثورة. كما يحزنني لنفس السبب أنني لا أعرف المكان المحدد لقبر جدي الآخر، والد والدتي، المدفون في إحدى مقابر قرية البروة والتي هُدمت وهُجِّر أهلها، وتبعثرت حجارة قبور موتاها مع مرور الزمن. وقد أكون أحمل بعضًا من جيناته وملامحه دون أن أعرفه أيضًا.
منذ الذكرى الخمسين لنكبة 48، وأنا أتابع أخبار القبور والمقابر في فلسطين باهتمام، والتي تُنتَهك حرمتها من قِبل الجماعات الصهيونية في القدس ويافا وحيفا وغيرها من البلدات، وبخاصة تلك التي هدمت بعد تهجير أهلها في ذلك العام الحزين. ويثيرني كثيرًا أي خبر عن نبش أي قبر أو تجريف أي مقبرة، أو أي جزء من مقبرة، من قِبل تلك الجماعات الصهيونية الآثمة، المتواطئة مع جشع رأس المال أحيانًا.

في هذا اليوم الخريفي، أجدني جالسًا أتأمل وأسأل: ما أهمية القبور والمقابر؟ ولماذا يشغلني، كما يشغل بال الكثيرين غيري، أمرها؟ وأظنني وجدت الجواب أخيرًا، وهو جواب بسيط يعرفه عامة الناس بالفطرة أو بالحدس: قبور ومقابر أجدادنا تقول لنا ولغيرنا من نحن. هي تاريخنا ولغتنا ولهجتنا وقيمنا وملامحنا وطبائعنا وفصائل دمنا! باختصار؛ هي هويتنا الفردية والعائلية والجماعية، أو قُل، هي ذلك الجزء الموروث من هويتنا. ولأنها كذلك، يستهدفها العدو الذي يهون عليه انتهاك حرمة الأموات من الأجداد تمامًا كما يهون عليه انتهاك حقوق الأحياء من الأبناء والأحفاد. كما أن قبور ومقابر الأجداد خير دليل وخير شاهد على هوية أصحاب الأرض وأصحاب البلاد، ولهذا السبب يدأب العدو على العبث بها، بينما يطرب حينما يعثر على قبور أو مقابر يدّعي أنها تخص أجداده القدماء. ولهذا السبب أيضًا علينا أن نعرف كيف نحمي ونصون مقابر وقبور أجدادنا الموتى.

ما قيل أعلاه لا يعني أو ينتج عنه أن هويتنا ثابتة أو أنها قابلة للاختزال إلى مركبها الموروث عن الأجداد، فهي قابلة للتعديل بالاختيار، وبذلك الحذف والإضافة اللذيْن يتطلبهما الطارئ والمستجد من الأحداث والأحوال، فأنا مثلًا، ابن أو حفيد ذاك الفلاح العربي الفلسطيني المسلم السني المحافظ اجتماعيا/ فكريًا. ولكنني أختلف عنه كثيرا، فلم أعد فلاحًا كما كان، ولم أعد محافظا اجتماعيا/ فكريًا كما كان، ومركَّب المسلم السني في هويتي أقل سمكًا. ولكن في جميع الأحوال، تظلّ هويتي الفردية مبتورة وتظلّ قصتي الفردية ناقصة بدونه! بهذا المعنى، أبي أو جدي الراحل يكملني.

أما الهوية الجماعية فتظلّ ناقصة، وربما مشوّهة، بدون مركب الأرض/ الوطن. والأرض/ المقبرة هي الأرض/الوطن مصغّرًا، فأنت تريد أن تدفن بقرب أهلك (شعبك الأصغر) وفي مقبرة بلدتك (وطنك الأصغر). هذه هي رغبة الغالبية الساحقة من الناس. وهذا يفسر، مثلًا، الرغبة الجامحة للأكاديمي الفلسطيني إبراهيم أبو لغد، والتي عبّر عنها قبل وفاته في مدينة رام الله، في أن يدفَن قرب قبر والده في يافا حيث ولد وترعرع. وبما أن "الموتى رهائن الأحياء” (كما يقول الكاتب نصري حجاج)، فقد عرف الأصدقاء والأحباء وقتها كيف يشبعون تلك الرغبة الجامحة. آخر الرغبات لديه. ولدي من الأسباب ما يعزز الاعتقاد بأن الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش كان يؤثر أن يدفَن في إحدى مقابر قرية البروة. ولكنه كان يعرف، كما نعرف، أن ذلك لم يكن متيسرًا. ورغبة الرئيس الراحل ياسر عرفات بأن يدفَن في القدس لم تكن خافية على أحد. هناك، بالطبع، استثناءات لهذه القاعدة: الشهداء والملوك والرؤساء والأولياء الذين يدفَنون في مقابر خاصة، على سبيل المثال لا الحصر. وفي هذا الصدد، محيّر أمر الباحث والمفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد الذي أوصى صراحة قبل مماته بأن تُحرق جثته ويذرَّ رمادها على مقبرة الكويكرز في قرية برمانا في جبل لبنان. وكان الأحياء المعنيون في هذه الحالة أيضا أمناء على "رهينتهم” رغم غرابة مضمون الوصية!

ياسر عرفات وإدوارد سعيد ومحمود درويش وإبراهيم أبو لغد خير أمثلة على أن حوارنا مع الموتى لا ينقطع. نتفق معهم، أي الموتى، في أمور معينة ونختلف معهم في أمور أخرى؛ نعاتبهم على ما فعلوا أو لم يفعلوا؛ نقتبسهم شفاهة أو كتابة ونردد أقوالهم؛ ونفتقدهم ونشتاق إليهم أحيانًا، وتدمع عيوننا حين نذكرهم أو يذكرهم غيرنا بالخير في حضورنا؛ ونغضب عليهم أحيانًا، فنحملهم ظلمًا نتائج عبث الأقدار ورداءة الأزمان. وعلى سبيل المثال، ولفترة غير وجيزة من الزمن، كنت غاضبًا على والدي، ولم أزر قبره، لأنه رحل مبكرًا، تاركًا وراءه، وكأنما دون أن يفكر أو يكترث، زوجة ترملت في عزّ صِباها وسبعة أولاد يتامى لا يتجاوز عمر أكبرهم أربعة عشر عامًا! والعبرة الأهم هنا: الأموات يبقون أحياء فينا أو من خلالنا، بعد تعفّن أجسادهم تحت التراب.

وأخيرًا، في بنية الهوية سواء الفردية أو الجمعية/ الوطنية، على طبقاتها المختلفة، الرقيقة منها والسميكة، هناك مركبان رئيسان هما: الموروث والمكتَسَب. المركب الموروث هو ما تختزنه القبور والمقابر أساسًا. أما المركب المكتسَب فمرهون بقراراتنا وخياراتنا، أفرادًا كنا أو جماعات. علمًا بأن قراراتنا وخياراتنا تلوّن بدورها بعض ما ورثناه من هوية، فإذا كان والدي أو جدي الراحل، مثلًا، فلاحًا محافظًا، أستطيع أن اختار أن أكون عاملًا مأجورًا أو موظفا ليبراليًا. كما وأستطيع، إذا أردت، أن أغيّر اسمي أو مهنتي أو انتمائي الحزبي/ السياسي أو الديني أو بلد إقامتي. ولكن شيفرة جيناتي وملامحي ومكان ولادتي وعلاقات القربى الخاصة بي، من بين أمور أخرى، تظلّ عصية على التغيير، وتلاحقني أينما كنت وإلى أي مكان رحلت.

وختامًا، صحيح أن الإنسان قضية، كما يقول غسان كنفاني على لسان بطل روايته "عائد إلى حيفا”. ولكن صحيح أيضًا أن القبور والمقابر هوية، فردية وجماعية على حدّ سواء. وحين تكون الهوية مستهدَفة أو مهدَّدة في بعض جوانبها، كما هو عليه الحال في فلسطين، يكون واجب حمايتها وصيانتها أكثر إلحاحًا وأكثر صرامة. وعلينا أن نغرس في الأذهان دائمًا بأن حوارنا مع أهل القبور، وبخاصة قبور أجدادنا، لا ينقطع. ولأنهم رهائننا تحت التراب، يهمنا أن نتصرف بالشكل الذي نعتقد أو نتخيل أنه يليق بهم أو ينال إعجابهم. ونريدهم أن يكونوا فخورين بنا وبما عمِلنا وأنجزنا. فالأحياء رهائن الموتى، تمامًا كما هم الموتى رهائن الأحياء! عن "عرب ٤٨”