تربية الإنصات

أخبار البلد - أُعاني أحياناً مشكلة التسرع بالرد على المتكلم، أو بمقاطعته قبل أن ينهي كلامه، معتقداً أنني أعرف ما ينوي قوله، أو لأنه يتكلم بصورة متقطعة فأظن أنه أعطاني فرصة الكلام. وحالتي هذه ليست خاصة بل عامة، لأننا لم نتعلم في الأسرة، والمدرسة، والجامعة، والمجتمع حسن الاجتماع أو الإنصات أو الإصغاء. ومن هنا ولهذا تقع مشكلات وإشكالات بين الحضور كان لا مكان لها لو تحلينا بحسن الاستماع أو الإنصات أو الإصغاء.


الاستماع أو الإنصات أو الإصغاء لا يعني مجرد السمع، فالسمع إحدى الحواس الفيسولوجية/ الفطرية ما لم يكن يوجد عوق سمعي عند الإنسان. أما الاستماع أو الإنصات أو الإصغاء أو ما يسمى في التربية والتعليم بالاستماع النشط (Active Listening) فمختلف جداً عن السمع، ويحتاج إلى تربية وتمرين ليصبح مهارة، نفتقدها في مجتمعنا الرسمي والشعبي. أما السمع فلا يحتاج إلى تربية أو تعليم لأنه حاسة فطرية كما ذكرنا عند الإنسان والحيوان التي كثير منها أقدر منا على السمع وتتوقف حياتها عليه.


الاستماع الفعال أو الإنصات أو الإصغاء، كما يقول الطبيب النفسي ثوماس دبليو قبلان وزميلته المربية سارة جين شونوي في كتابهما لإدارة الصفوف بعنوان: (1-2-3 Magic for Teachers , 2004)، هو طريقة أو مهارة للتحدث مع الآخر بالاستماع إليه وبتبادل الإحساس معه. إنه احترام شديد لأفكاره ومشاعره، دون أن يعني ذلك الموافقة عليها من المستمع، فالمستمع يشغل النشط من هذه الحاسة ليرى العالم من خلال عيني المتكلم. فعندما تكون -يضيفان- في حالة استماع فإنك تنسى آراءك مؤقتاً، مؤجلاً إصدار أحكامك على ما تستمع إليه إلى أن ينتهي المتكلم من الكلام.


يهدف الاستماع إلى تحقيق هدفين هما أولاً: إدراك ما يقوله المتكلم ويفكر فيه من زاويته ووجهة نظره، والتواصل مع المتكلم بالرّجع لمعرفة فيما إذا فهم عليه. أي أن المستمع مشارك فعال في أثناء الاستماع أو الإنصات، وليس مجرد شخص جالس على كرسي أو أريكة يهز رأسه بين الفينة والأخرى، وإن كان كذلك -أحياناً- مفيداً.
ولما كان الأمر كذلك، وهو كذلك، فإن الاستماع أو الإنصات ليس أمراً سهلاً كما يعتقد كثير منا. إنه أمر صعب يحتاج إلى تربية وتعليم وتمرين، وإلى وقت قد يطول وأنت محتفظ بآرائك في نفسك في أثناء الإنصات. وعندما تشعر أن الإنصات تخطى حدوده أو زاد على حده، أو قرفت منه، فأشر إلى المتكلم برأسك أو بيدك ولكن بلطف كي يتوقف، واطرح عليه بعض الأسئلة ذات العلاقة.


وفي جميع الحالات، أعد نفسك لتستمع إلى ما لا تطيق، فالاستماع طريق فعال مطلوب، في المدرسة، والجامعة، والمحكمة، والمؤتمر، والندوة، والمحاضرة… كي يكون التفاعل مثمراً.


ينصح المؤلفان المستمع بإبداء الاهتمام بكلام المتكلم، وإظهار الاستعداد له والرغبة في الإنصات إليه، لكن يجب أن يبدو الاهتمام به ظاهراً عليك بما في ذلك وضعك غير اللفظي، مثل جلستك وتوجيه عينيك نحو المتكلم ناظراً إليه، وتاركاً ما بين يديك من سبحة أو أوراق أو أقلام… أي أنه يجب عليك كمستمع التفرغ له بالإصغاء، لكنك تستطيع بين الحين والآخر طرح الأسئلة الضرورية على المتكلم لمزيد من الفهم، ولكن بشرط ألا تكون أسئلتك ملغومة أو تعبر عن إصدار أحكام مسبقة على ما يقول. ويجب ألا يظهر عليك الضجر أو الإحباط وإن كنت محبطاً مما تستمع إليه وكأنه مجرد ثرثرة فارغة أكثر منه عرض وجهة النظر أو الفكر أو التعبير عنهما، لأن إظهارها يؤدي إلى السكوت أو إلى الجدل العقيم. بل بالعكس أظهر مشاركة وجدانية مع المتكلم، وبخاصة إذا كان ضحية وأنك تقدر الظروف، والأحوال التي تعرض لها أو مرّ بها، وكأنك طبيب نفسي.


يحقق التشاعر مع المتكلم أشياء عدة مثل تعزيز تقدير الذات، وتنفيس العواطف السلبية الجياشة المحجوزة داخل المتكلم، وبخاصة عند الأطفال عندما يصغي الأب أو الأم أو المعلم/ة لهم باهتمام واحترام، فعندئذ يتحول الإصغاء إلى أداة عظيمة لترسيخ النظام في الأسرة والمدرسة.


مرة أخرى نقول: الاستماع أو الإنصات أو الإصغاء مترادفات ومهارة اتصالية بحاجة إلى التربية والتعليم والتمرين، وفي ذلك أبحاث ونظريات ومقالات ومؤلفات لا تحصى.