عن الخلافات السياسية في أوساط فلسطينيي 48
أخبار البلد - إذا اعتبرنا الحركة الإسلامية الشمالية حركة دينية/ اجتماعية أكثر مما هي سياسية، وإذا وضعنا جانبًا أعضاء الكنيست العرب في الأحزاب اليهودية الإسرائيلية، يمكن عندها القول، مع ما يلزم من التحفظ، إن هناك اليوم ثلاثة تيارات سياسية فاعلة ومؤثرة في أوساط فلسطينيي 1948:
تختزل هذه التيارات السياسية الرئيسية الثلاثة تواصل أو/ وتعدّل مسار التيارات السياسية الأربعة التي سادت خلال الجيل الماضي وسابقًا: الشيوعي/ الماركسي، القومي العربي، الإسلامي/ الإخواني، الوطني العام. فعلى الرغم من الاحتفاظ بالمسمّيات، فإن "الجبهة”، وعصبها الحزب الشيوعي، لم تعد ماركسية كما كانت، و”التجمّع” لم يعد قوميًا عربيًا كما كان، و”الإسلامية الجنوبية” لم تعد إسلامية/ إخوانية كما كانت. وحدها الحركة العربية للتغيير ظلت كما كانت، برنامجًا وسلوكًا ورئيسًا. ولأنها ظلت كذلك، ليس من باب المصادفة أنها الأكثر قربًا إلى، وتناغمًا مع، "الجبهة” هذه الأيام. أقول هذا من باب الوصف والتحليل، وليس من باب التقييم أو التعبير عن موقف. وإذا سأل "الزمان” وقال: "ما الذي غير أحوال الحركات الأيديولوجية الثلاث الأخرى؟”، يكون الجواب إن العطب الأيديولوجي الذي أصاب الحركات الثلاث، الماركسية والقومية والإخوانية، مردّه إلى أسباب خارجية غير خافية: انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية، تداعي كلا المشروعين تباعًا، القومي العربي والإسلامي الإخواني، وتراجع الحركة الوطنية الفلسطينية. هذا العطب الأيديولوجي تحديدًا هو ما يفسّر تردّي أحوال الحركات السياسية الثلاث المذكورة من جهة، وتمحور الخلافات بينها حول ثنائية الليبرالي مقابل المحافظ، وثنائية الوطني مقابل المدني من جهة أخرى.
.. اشتدّت حدّة المناكفات بين القائمة العربية الموحدة ومنافستها الفلسطينية، القائمة المشتركة (تضم الجبهة والتجمع والعربية للتغيير)، قبيل انتخابات شهر مارس/ آذار الماضي وبعدها، وبصورة خاصة بعد مشاركة "الموحّدة” في الائتلاف الحكومي الإسرائيلي، برئاسة نفتالي بينت. وقد وصلت حدة هذه المناكفات إلى درجة التخوين من جهة، وإلى درجة التعارض في التصويت في الكنيست على مشاريع قوانين تمسّ مصالح المواطنين الفلسطينيين داخل إسرئيل وهمومهم من جهة ثانية. ويسأل سائلٌ من أهلها: كيف ولماذا تحول حلفاء الأمس إلى أعداء اليوم؟ وما كنه هذا العداء المستجد؟ قبل الإجابة، علينا أن نقرّ بأن التحالف سابقًا لم يكن بحسن وصفاء نية بقدر ما كان أساسًا بدافع المخاوف من عدم تجاوز نسبة الحسم، بعدما تم رفعها إلى 3.25%.
كما وعلينا أن نقرّ، ثانيًا، بأنه كانت للانقسام إلى قائمتين، وللمرة الثانية، علاقة بتصوّر كل من الجبهة والعربية الموحدة عن الوزن الانتخابي لكل منهما. وفي الحالتين، التحالف والانقسام، تم كبت النقاش الجدّي والمعمّق حول القضايا الخلافية ذات العلاقة بثنائيي وطني/ مدني وليبرالي/ محافظ.
القائمة العربية الموحدة، والحركة الإسلامية الجنوبية عمودها الفقري، تقول التالي بكل وضوح: لقد ترشّحنا وانتخبنا لنمثل جمهورًا محافظًا، اجتماعيا/ فكريًا ودينيًا على حد سواء. كما وتقول بجلاء: لقد ترشّحنا وانتخبنا لمعالجة القضايا المدنية الجارية والعالقة، خصوصا الحارقة منها، لجمهور ناخبينا. وتقول، ثالثًا، وإنْ ضمنا أكثر منه صراحة: القضايا الوطنية الفلسطينية العليا، كما القضايا ذات العلاقة بالعقيدة الإسلامية، يتم علاجها أو التعاطي معها خارج أروقة البرلمان أساسًا. هذا يعني، في ما يعنيه، الفصل النسبي أو الجزئي بين المدني من جهة والوطني والعقيدي من جهة أخرى، علمًا أن الفصل الكامل أو المطلق بينهما غير وارد في جميع الأحوال.
هذه المواقف/ المنطلقات التي تتبنّاها "الموحدة”، وتروّجها تحت شعار الواقعية السياسية تضعها في صدام مباشر مع الحركات السياسية التي تنضوي تحت "القائمة المشتركة”، تلك الحركات السياسية التي ترفض صراحةً أولوية المدني على الوطني، تمامًا كما ترفض المساومة على التزاماتها أو نزعاتها الليبرالية اجتماعيًا وفكريًا (تلك الالتزامات أو النزعات التي تتفاوت من حيث الدرجة أو الحدّة من حركة سياسية إلى أخرى). وفي المقابل، هذه المواقف/ المنطلقات تفسّر، وإلى حد بعيد، انجذاب القائمة العربية الموحدة نحو أحزاب اليمين الإسرائيلية، ذلك الانجذاب الذي توّج أخيرًا بمشاركتها في ائتلاف حكومي، يرأسه اليميني نفتالي بينت، والمعروف بعدائه لفكرة ومشروع الدولة الفلسطينية ذات السيادة.
كانت مواقف/ منطلقات القائمة العربية الموحدة معروفة ومعلنة قبل الانتخابات التشريعية في مارس/ آذار الماضي. وعلى الرغم من ذلك، أو بفضل ذلك، حصلت القائمة على أربعة مقاعد في البرلمان، أي أكثر من مقاعد أي حزب من أحزاب القائمة المشتركة المنافسة. ماذا يعني ذلك، وما دلالاته؟ هناك، في اعتقادي، انقسام سياسي/ مجتمعي بين فلسطينيي الداخل، علينا أن نأخذه بالجدّية والمسؤولية اللازمتين. ولهذا الانقسام خلفيات وتجليات علينا استقصاء أبعادها.
للخلفيات علاقة بتردّي أحوال الحركة الوطنية الفلسطينية عمومًا، كما لها علاقة، كما أسلفنا، بابتعاد الحركات السياسية لفلسطينيي الداخل عن منابتها الأيديولوجية (وفي حالة القائمة العربية الموحدة، الابتعاد عن المنبت الإسلامي/ الإخواني تحديدًا). أما التجليات فلها علاقة بالأمرين الواضحين والمميزين المشار إليهما:
المحافظ مقابل الليبرالي والوطني مقابل المدني. بكلمات أخرى، القائمة العربية الموحدة تنادي بالمجتمع المحافظ دينيًا واجتماعيًا/ فكريًا، وهناك من يسمعها، وتنادي بأسبقية القضايا المدنية العالقة، خصوصا الحارقة منها، على القضايا الوطنية الفلسطينية العليا، وهناك من يسمعها أيضًا. ولأن الأمر كذلك، أي لأن لها جمهورًا عريضًا من المؤيدين والمتعاطفين، فلا يجدي كثيرأ اتهامها بالانحرافين، السياسي/ الوطني والأخلاقي، وهذا ما يفعله للأسف قياديو "الجبهة” و”التجمع” و”أبناء البلد” وآخرون. الرد الواجب والمناسب على تحدّي "الموحدة”، قيادة وجمهور ناخبين ومتعاطفين، يجب أن يكون بالاتجاه المبين أدناه.
هذا الرد يكون من خلال رسم، أو إعادة رسم، حدود الإجماع الوطني لفلسطينيي 1948، والذي يجب أن يؤكد على المبادئ التالية: احترام التعدّدية في المجتمع. وهي حزبية/ سياسية واجتماعية/ فكرية/ دينية في الوقت نفسه. تصعيد النضال من أجل المواطنة الديمقراطية المتساوية في الحقوق، الحقوق الفردية/ المدنية والجمعية/ القومية على السواء. التأكيد على عدم جواز الفصل بين الوطني والمدني، أو، قل، عدم التسليم بأسبقية الواحد منهما على الآخر، صراحة أو ضمنًا. تصعيد النضال من أجل صون هوية الإنسان والمكان في هذا الجزء من فلسطين. التأكيد على أن فلسطينيي جزء من الحركة الوطنية الفلسطينية الأوسع، متأثرون بها وفاعلون فيها، مع الأخذ بالاعتبار خصوصية هذا الجزء وما يترتب على ذلك من محدّدات والتزامات.
وختامًا، بولوجها عتبة المشاركة في ائتلاف لحكومةٍ إسرائيلية، يرأسها رئيس حزب يميني يتنكّر جهرًا للحقوق الوطنية الفلسطينية، وبفصلها الضمني بين الوطني والمدني وإعطاء الأسبقية للثاني على الأول، تكون القائمة العربية الموحدة قد اخترقت حدود الإجماع الوطني لفلسطينيي 48 (كما حاولت رسمها أعلاه). ولمن يعتقد أنها تكون بذلك قد حادت عن طريق الصواب، أقول: المناكفات لا تردع ولا تجدي نفعًا، عليك أن تعرف، وبالحوار العقلاني المتروي، كيف تكون "دليل الحائرين” والضالّين!