هل نلغي حساباتنا على «فيسبوك»؟

أخبار البلد - نعيش في عصر من المتناقضات المعتادة. لا شيء أوضح من ذلك إلا خلال الساعات التي انقطعت فيها أغلب وسائل التواصل الاجتماعي. معظم المنتقدين لـ«فيسبوك» وملطخي سمعة «إنستغرام» والداعين للعودة للحياة الطبيعية السابقة (أياً كانت تعني هذه) أصابهم التململ بعد مرور الساعات التي ظهروا فيها غير قادرين على نشر صورة أو كتابة تعليق على صفحاتهم.


هذا التناقض مفهوم في الطبيعة البشرية التي تسعى للشعور بالتفوق على الآخرين المخطئين من خلال ادعاء الفضيلة والمثالية الأخلاقية، ولكن الانغماس في متع الحياة الواقعية اليومية لا يمكن مقاومته. أغلب الناقمين على «فيسبوك» يفعلون ذلك من خلال التعليقات على «فيسبوك» نفسه، في الوقت الذي يمكن لهم معاقبة مارك زوكربيرغ بمجرد إلغاء حساباتهم.

هذه العادة البشرية كلاسيكية ومتأصلة، ولكن الجديد والمثير في عالم وسائل التواصل ليس الانقطاع، ولكن الصدمات التي تعرضت لها مؤخراً. ورغم أن هناك من يعتقد أن الموظفة السابقة فرانسيس هوغان قد سددت طعنة نافذة للشركة العملاقة، فإنها ليست الطعنة الأولى. الطعنة الأولى كانت على يد «فيسبوك» نفسه وشركات وسائل التواصل الكبرى عندما قررت إلغاء حسابات الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب وحذفت معه أكثر من 80 مليوناً من متابعيه بغمضة عين.


لقد كانت لحظة فاصلة حتى خِصم ترمب الشرس المرشح الديمقراطي بيرني ساندرز لم يقدر على تجاوزها ولامها على قرارها. صحيح أن ترمب استخدم حساباته بطريقة ديماغوجية سوقية (لقد فصل شخصيات مخضرمة ورصينة في إدارته بتغريدات مهينة ونعتهم بالحمقى، وتباهى بوصف القادة العسكريين بـ«جنرالاتي»!)، إلا أن هذا ليس السبب الذي دفع هذه الشركات للتحالف ضده، خصوصاً أنه ليس المتنمر الوحيد. لا ننسَ حسابات كثيرة لمسؤولين اتهموه بالعمالة لروسيا من دون دلائل قاطعة.

 ونرى الآن قيادات في «طالبان» تغرد في «تويتر» بينما تقوم عناصرها الأمنية بجلد النساء وصلب المتهمين على رافعات البناء. الدافع لهذه الشركات العملاقة كان واضحاً: منعه من العودة مجدداً وجعل الأمر صعباً عليه من دون مساعدة هذه المنصات هائلة النفوذ.

ويدرك الرئيس السابق جيداً عِظم التأثير الذي تملكه هذه الشركات؛ فقد حاول التقليل من الخطوة في البداية وانتهت دعوته لخلق منصات جديدة منافسة بفشل ذريع، ومؤخراً قام برفع دعوى على شركة «تويتر» لاستعادة حسابه، مدركاً أن هذه هي الطريق الوحيدة لاستعادة زخمه الذي تبخر.

لقد اتخذت هذه الشركات خطوة حزبية وسياسية ماكرة، ولكنها فقدت المصداقية الأخلاقية وبدت منحازة على نحو سافر. وقصة ترمب ليست الوحيدة، ولكن هناك قائمة طويلة من المواضيع الجدلية؛ من المناخ وحتى قيم العائلة، حيث تضيق هذه الشركات على أصحاب الآراء المعارضة.

لقد واجه مؤخراً المرشح عن ولاية كاليفورنيا لاري اليدر حملة ضخمة لتشويه صورته والتضييق عليه لأنه يتبنى خطاباً مخالفاً للطرح السائد في هذه المنصات. اليدر ناقد بشدة للفكرة القائلة بوجود عنصرية مؤسسة تمنع السود من الوصول إلى تحقيق طموحاتهم، مؤكداً أن أصل المشكلة عائلية تتمثل بغياب الأب. 

وهو معارض بشدة لفكرة أن الشرطة تستهدف المجتمع الأسود، مدللاً بالأرقام أن هذه مجرد انطباعات سائدة يدفع ثمنها المجتمع الأسود نفسه (في عام 2018 قتل 7400 أميركي أسود، لكن ليس على أيادي الشرطة، بل على أيادي مواطنين سود آخرين). ورغم كونه أسود، فإنه يواجه بحملة مستمرة لإلغائه تماماً من المشهد. المفكر الاقتصادي توماس صويل والكاتب شبلي ستيل، اسمان لامعان لكنهما مهمشان بالكامل بسبب طغيان موجة واحدة على هذه المنصات التي لا تتقبل الآراء الأخرى.

لقد كانت هذه المنصات مكاناً لعرض الصور العائلية واللحظات اللطيفة، ومن ثم أصبحت ملجأً للأفكار المتنوعة والمتعارضة، ولكن تحولت بسبب الضغط السياسي الحزبي ومع انتشار ثقافة الإلغاء إلى مساحات مسيّسة خانقة. وفي شهادة كاشفة الأسرار هوغان قالت، إن «فيسبوك» يهتم بالتفاعل والإيرادات أكثر من سلامة المجتمع من خلال تصميم خوارزميات تتعمد الإضرار به عبر اعتماد آلية الدفع بمزيد من المحتوى الداعي للعنف والانقسام. وقد رددت اتهامات جدية، بأن هناك فيديوهات لعمليات إرهابية ودعايات للمتاجرة بالبشر تم نشرها على نطاق واسع بين المستخدمين عن طريق تصميم الخوارزميات التي تدفع بالفيديوهات التي تحقق مشاهدات أعلى في «التايم لاين» الخاص بالمشتركين للنقر عليه. ومن المؤكد أن «فيسبوك» لا يتعمد الدعوة إلى هذه المقاطع، ولكن تصميمه والحجم الهائل لمتابعيه يعمل بشكل مستقل منفلت ومن الصعب ضبطه. وفي مواجهة مارك زوكربيرغ مع أعضاء الكونغرس الأخيرة أمطروه بملاحظات مشابهة، وطلب منهم أن يجدوا له الحل، ولكنهم لم يتمكنوا من الوصول لحلول عملية.

واتهمت هوغان «إنستغرام» بأنه يعرض على الفتيات صوراً للأجساد المثالية المعدلة؛ الأمر الذي يدفعهن للانغماس في الكآبة. ومع وعود شركة «فيسبوك» بالقيام بمزيد من الإصلاحات، إلا أنه من الصعب تصور أن تتخلى عن الآليات (كما تفعل الشركات المنافسة) التي تزيد من تفاعل المشتركين مع المحتوى؛ لأن هذا هو السبب الرئيسي لنجاحها. وتتصاعد أصوات داخل الشركة، بحسب تقرير نشرته «نيويورك تايمز»، بأن كل ما يحدث مبالغات تستهدف الشركة، وأن الأسلوب الاعتذاري الذي سلكه زوكربيرغ زاد شهية المنتقدين والناقمين حتى من داخل الشركة نفسها، حيث زادت أعداد المنشقين على عكس الشركات الأخرى. ولهذا ستلجأ الشركة لاتخاذ موقف دفاعي وتقوم بالترويج لمزايا وأهمية «فيسبوك» بعد أن أدركت أن لا أحد سيهبّ لتقديم العون لها والدفاع عنها.

 ومع كل هذه الحملة الصاخبة، فمن غير المرجح أن يقفل الناس حساباتهم في «فيسبوك» و«إنستغرام»، وهذا الدرس الواضح الذي تعلمناه من الضجر الذي أصاب الملايين حول العالم خلال الساعات التي اختفت فيها هذه الشركات فجأة من عالمنا.