استحقاقات إعادة بناء الحركة الوطنية وبرنامجها التحرري ‏ ‏(2)‏

أخبار البلد - كما بات واضحًا، فإن بقايا الحركة الوطنية تعاني، بصورة مضطردة، من أزمة فشل استراتيجية، وحالة تآكل يبدو أنها غير قابلة ‏للترميم؛ حيث يتسيّد فوق أنقاضها أصحاب المصالح الفئوية والشخصية على حساب المصالح الوطنية والمجتمعية والحقوق ‏العامة والشخصية للمواطنين، بما في ذلك متطلبات صمودهم وقدرتهم على مواجهة خطر الانهيار الذي تتراكم ملامحه في ‏المجتمع الفلسطيني يوميًا، وخطر مخططات التصفية الاسرائيلية لحقوق شعبنا الوطنية التي باتت أكثر من واضحة.‏



لقد شهد المجتمع الفلسطيني تحولات اقتصادية واجتماعية مفصلية منذ أوسلو، وخاصةً بعد سنوات الانقسام العجاف وحتى الآن ‏أدّت إلى أن جوهر التناقض الاجتماعي بات يتبلور، وبوضوح، بين مؤسسات السلطة المنقسمة في كل من الضفة والقطاع من ‏ناحية، وبين مصالح الأغلبية الساحقة من المواطنين الفلسطينيين من ناحية ثانية. ولمواجهة وحلّ هذا التناقض فنحن أمام ‏الخيارات التالية:‏

أولًا: أن تعود الأطراف المهيمنة على المشهد إلى رُشدها وتُقرّ بضرورة مراجعة الأسباب التي أدّت وما زالت تفعل فعلها في تفكيك ‏الحركة الوطنية وعزلة نظامها السياسي، بالإضافة لمراجعة مسؤولة لسياسات حركة حماس الانقسامية والتي أفرغت كل ‏التضحيات وإرادة الصمود، بل وادعاءات النصر لكل المعارك غير محسوبة العواقب منذ سيطرتها على السلطة في غزة، وبحيث ‏تُشكل هاتين المراجعتين، سواء منفردتين أو في إطار وطني جدّي، واستخلاصاتهما الواضحة لكل ذي بصيرة، قنطرة للتلاقي ‏على أرضية الوحدة والتعددية. هذا الاحتمال يبدو أنه غير وارد، أو على الأقل غير مرئي، وما زالت الأطراف المهيمنة على ‏المشهد تتنازعها نرجسية الإصرار على مواقفها لفرض شروط كل منها على الآخر. فالرئيس أبو مازن ما زال مُصرًا على التزام ‏حماس بشروط الرباعية، في وقتٍ ليس فقط أن هذه الشروط لم تعد قائمة بالنسبة لأصحابها، بما في ذلك الإدارة الأمريكية ‏نفسها، بل، فإنه وفقًا للتسريبات التي أعلنها "أهود يعاري” المقرب من المؤسسة الأمنية الاسرائيلية على القناة "12” الاسرائيلية، ‏وكذلك ما نشرته صحيفة هآرتس الاسرائيلية، حيث أشار كلاهما لموقف أمريكي جديد يدعو لوضع شروط الرباعية جانبًا والتقدم ‏لتشكيل حكومة جديدة، "وحدة وطنية أو تكنوقراط”، بمشاركة حماس.

ربما يكون الإفصاح عن هذا الموقف يأتي كمحاولة أخيرة ‏لإنقاذ إمكانية الحفاظ على مبدأ حلّ الدولتين، سيّما بعد التسريبات التي تخرج حول اتفاق لهدنة طويلة الأمد بين حماس واسرائيل، ‏وإمكانية أن يُعزّز مثل هذا الاتفاق حالة الانقسام نحو الانفصال، سيّما في ظل غياب وحدة كيانية السلطة؛ الأمر الذي سيعني ‏دفن نهائي لما يسمى بحل الدولتين. هذا بالإضافة إلى أن حركة حماس، التي توسع من علاقاتها الإقليمية والدولية، ما زالت ‏تطرح شروطها غير الواقعية لسبل إعادة بناء مؤسسات الشرعية الوطنية في كل من المنظمة والسلطة على حد سواء.‏

ثانيًا: أن يعود طرفيّ الانقسام لما توافقا عليه حول إجراء الانتخابات دون الذهاب المسبق لحكومة وحدة وطنية تهيّئ لانتخابات ‏حرة ونزيهة وشفافة، وتفتح الأفق لعملية سياسية داخلية تُمكّن القوى الاجتماعية الجديدة من بلورة نفسها كفاعل في مستقبل الحياة ‏السياسية، ويبدو أن هذا غير وارد على الإطلاق. فأسباب تأجيل الانتخابات الحقيقية والمعلنة قائمة وتزداد تعمقًا.‏

ثالثاً: يبقى، ولحل هذا التناقض بين السلطة المنقسمة والمجتمع، ودون شعارات رغائبية، بأن تنهض قوى المجتمع الحيّة لانتزاع ‏حقها في التعبير عن دورها والمبادرة لإعادة بناء الحركة الوطنية من القاعدة للقمة وليس العكس، وعلى أساس برنامج اجتماعي ‏وطني يقوم على أولوية النضال الجماعي للدفاع عن المصالح والقضايا الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين، دون استثناء الأبعاد ‏الوطنية المترابطة مع هذه النضالات وفق متطلبات طبيعة المرحلة التي تتداخل فيها عملية التحرر الوطني مع متطلبات البناء ‏الديمقراطي، وبما يشمل قضايا الحريات وحقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير والتنظيم والتظاهر. إن الجوهري في هذه العملية ‏ينطلق من إعادة تعريف المشروع الوطني، والقوى الاجتماعية المحركة والحامل الاجتماعي لهذا المشروع، وفي مقدمتها الفئات ‏المتضررة من الحالة الراهنة، والتي تتّسع يوميًا، سيّما في أوساط الشباب والمرأة والمخيمات والفئات الفقيرة في أحياء المدن ‏وغيرها، دون الانعزال عن باقي فئات المجتمع والتي هي بالضرورة أيضًا تعاني من سياسات وإجراءات الاحتلال. ‏

رابعًا: أما في حال استمرار حالة التآكل، واقتصار دور الحراكات الاجتماعية والسياسية على ما هو قائم من انتقائية، وعدم ‏الاستعداد للتلاقي على قواسم وطنية وديمقراطية عريضة، لإعادة بناء النظام السياسي على أساس الوحدة الوطنية وترسيخ الحياة ‏الديمقراطية عبر الانتخابات، فسيظل واقع الحال مفتوحًا أمام خطر الانهيار، وبالتالي مزيد من السيطرة الاسرائيلية على المشهد ‏الفلسطيني برمته.‏

في كل الأحوال، فإن عملية إعادة بناء الحركة الوطنية يجب أن تنطلق من أسس مراجعة أسباب فشلها الراهنة، ولعلّ في مقدمة ‏هذه الأسباب غياب شمولية التمثيل ليس فقط للحركات السياسية والاجتماعية، سيّما للشباب والمرأة في مؤسسات الوطنية ‏الجامعة، بل وللتجمعات الفلسطينية كافة بما في ذلك داخل فلسطين المحتلة عام 1948، والشتات. وإصرار هذه الحركة على ‏ضرورة التمسك بحق تقرير المصير لكل الشعب الفلسطيني، وليس فقط لأجزاءٍ منه، وأن أي حل للصراع الفلسطيني الاسرائيلي ‏يجب أن يرتكز على ضرورة إنهاء الاحتلال العسكري الاستيطاني العنصري لجميع الأراضي المحتلة منذ عام 1967، وفي ‏مقدمتها القدس المحتلة، وعلى حق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة، ومبدأ المساواة الكامل، سواء في دولتين مستقلتين كاملتيّ ‏السيادة والحقوق كما عرّفها القانون الدولي في العلاقات الدولية، أو المساواة الكاملة لجميع المواطنين في دولة ديمقراطية واحدة، ‏دون أي تمييز على أساس العرق أو الدين أو الجنس. وكذلك رفض العودة لأيّ مفاوضات دون الاعتراف المسبق من قبل ‏اسرائيل، وكذلك الولايات المتحدة، بالحقوق الوطنية الفلسطينية كما عرّفتها الشرعية الدولية وفي مقدمتها إنهاء الاحتلال، وتمكين ‏الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه الطبيعي في تقرير مصيره، والسيطرة على موارده، والعيش بحرية وكرامة في وطن له كباقي ‏شعوب العالم.‏

إن الطريق لإعادة بناء الحركة الوطنية ينطلق من هذه الأسس، وبما يشمل الحق في المقاومة الشعبية الفاعلة والقادرة على إعادة ‏الأمل للناس، والكفيلة في نفس الوقت بمراكمة عناصر القوة من أجل تغيير موازين القوى، وبما يشمل بنية جديدة للمؤسسة ‏الرسمية التي يجب أن يتركز جوهر وظيفتها ودورها في تعزيز قدرة الناس على الصمود عبر خطط تنموية اقتصادية واجتماعية ‏وثقافية وتربوية تستهدف النهوض الوطني الشامل بما يمكن تسميته بالبقاء المقاوم.‏

في الحلقة القادمة والأخيرة، سنراجع أسباب عدم نجاح المحاولات السابقة والجارية لبلورة تيار ديمقراطي اجتماعي عريض يساهم ‏في إعادة بناء حركة وطنية جديدة، وكيف يمكن تخطي هذا الفشل.