إستراتيجية التوظيف الإسرائيلي لـ"معاداة السامية"

أخبار البلد - تعريف "معاداة السامية"


يرتبط تعريف مصطلح "معاداة السامية" (أو اللا سامية) بالكاتب الألماني ويلهيلم مار والذي طرحه سنة 1879، خلال المناقشات في ألمانيا في تلك الفترة حول الاندماج في المجتمع الألماني من قبل الأقليات المختلفة وخصوصاً اليهود، نظراً للعلاقة الملتبسة بين الديانتين المسيحية واليهودية منذ المرحلة الهيلينية مروراً بالإمبراطورية الرومانية المسيحية.
وبالرغم من أن السامية -كعرقية- تشمل أعراقاً أخرى غير اليهود، إلا أن المصطلح ارتبط بـ"كراهية اليهود" تحديداً، وتزايد هذا التوجه في القرون الوسطى في الدول المسيحية وصولاً إلى القضية الشهيرة الخاصة بالضابط اليهودي الفرنسي ألفرد دريفوس سنة 1894، ثم المرحلة النازية قبيل الحرب العالمية الثانية.

وفي الوقت الحالي تبنت الولايات المتحدة، ومعها ثلاثون دولة، التعريف الإجرائي لمعاداة السامية الذي نشره مركز مراقبة العنصرية وكراهية الأجانب الأوروبي سنة 2016، مستنداً إلى تعريف "التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست"، وينص هذا التعريف لمعاداة السامية على أن "معاداة السامية هي نظرة معينة لليهود، والتي يمكن وسمها بكراهية لليهود، وكل المظاهر الخطابية والجسدية لمعاداة السامية الموجهة نحو اليهود أو غير اليهود و/أو ممتلكاتهم أو تجاه مؤسسات المجتمع اليهودي ومرافقه الدينية".

لكن المصطلح، وخصوصاً في العقود الثلاثة الماضية، أخذ يتسع إلى حدّ صعوبة الفصل بين معناه وبين معاني أبعاد جديدة يجري توظيفها بشكل متواصل، وقد نبَّه العديد من الكتاب الغربيين، وخصوصاً الأمريكيين، إلى هذا الخلط بين معاداة السامية وكل من نقد السياسة—وأحياناً السياسيين—الإسرائيلية، أو نقد الصهيونية كأيديولوجية، أو نقد اليهودية، أو حتى التصويت على قرارات دولية في الأمم المتحدة تدين السياسات الإسرائيلية، وهو خلط سياسي توظفه السياسة الإسرائيلية بشكل كبير لمواجهة تنامي الصورة السلبية لـ"إسرائيل" لدى الرأي العام الدولي.

ولعل القرار الذي اتخذه الكونجرس الأمريكي سنة 2008 بخصوص اللاجئين اليهود يستهدف تعويم مفهوم اللاجئ وربطه لاحقاً بمعاداة السامية؛ فقد نص القرار الأمريكي على "أن اليهود العرب يندرجون تحت مشكلة اللاجئين بشكل عام" طبقاً لتوصيفات الأمم المتحدة، على الرغم من أن أغلب اليهود هاجروا طوعاً وليس قسراً، والهدف من ذلك هو لربط ممتلكات اليهود في الدول العربية بممتلكات العرب في فلسطين لأغراض المقايضة، وفي حالة رفض هذا التعريف يتم وسم من يتبنى الرفض بمعاداة السامية.

لكن ما سمي "الموجة الثالثة من معاداة السامية" أو ما أطلق عليه البعض اسم معاداة السامية الجديدة، ركز الموضوع في "مواقف الرأي العام العربي من السياسات الإسرائيلية"، معتبراً أن مواقف التيارات السياسية العربية الرافضة للسياسات الإسرائيلية هي تجديد "لمعاداة السامية" (بالرغم من أن العرب ساميون). ويتضح هذا الخلط المتعمد بين اليهود والصهيونية و"إسرائيل" ومعاداة السامية بشكل واضح في مناقشات المؤتمرات وفي الكتابات التي ترعاها جماعات الضغط اليهودية، مثل كتابات عضو البرلمان الكندي السابق إروين كوتلر.

بل إن الأمر تطور إلى حدّ وسم بعض مؤسسات حقوق الإنسان أو البيئة في مناقشات وزارة الخارجية الأمريكية بمعاداة السامية، والدعوة لإدراج هذه المؤسسات مثل منظمة العفو الدولية، وأوكسفام، وهيئات مراقبة حقوق الإنسان ضمن قوائم معاداة السامية.

 وهو ما جعل حدود المفهوم تشمل أبعاداً لا حصر لها بغرض توظيفه سياسياً من قبل "إسرائيل" وحلفائها.

التوظيف الإسرائيلي لشعار معاداة السامية:

لعل العناية بالموضوع من قبل "إسرائيل" ليست أمراً عابراً بل إنه أحد أدوات الديبلوماسية الإسرائيلية، كما يتضح من النقاط التالية:

أولاً: توظيف معاداة السامية لتشجيع الهجرة اليهودية لـ"إسرائيل"
طبقاً لأرقام الوكالة اليهودية—وهي جهة تنسق أعمالها مع الحكومة الإسرائيلية—هناك علاقة واضحة بين نسبة الهجرة إلى "إسرائيل" ونسبة "النشاطات العنيفة أو غير العنيفة" التي يتم تصنيفها على أنها مؤشر على نزعة معاداة السامية، وللتدليل على هذه العلاقة نقدم مثالاً على ما أشارت له الوكالة عن أن ما مجموعه 9,880 يهودياً هاجر من أوروبا الغربية إلى "إسرائيل" سنة 2015، وكان نحو 8 آلاف منهم من فرنسا، وهي السنة التي تصفها المراجع اليهودية بأنها الأسوأ في تنامي نزعة معاداة السامية، خصوصاً في فرنسا التي تضم ثالث أكبر تجمع يهودي في العالم بعد "إسرائيل" والولايات المتحدة.

 وتدل الدراسات الغربية على وجود علاقة واضحة بين ارتفاع منسوب وقائع الدعاية عن "معاداة السامية" وبين ارتفاع نسبة الهجرة إلى "إسرائيل" مباشرة؛ فإذا حسبنا السنوات من 2000 إلى 2021، وحسبنا المتوسط لعدد الأحداث التي تنم عن معاداة للسامية وقارناها بالسنوات التي كان فيها عدد المهاجرين اليهود إلى "إسرائيل" أعلى من المعدل السنوي، سنجد النتائج الواردة في الجدول التالي:

(راجع على موقعنا جدول مقارنة بين سنوات تزايد معاداة السامية وسنوات تزايد عدد المهاجرين اليهود لـ"إسرائيل" خلال الفترة من 2021-2000)

يوضح الجدول السابق أن هناك تطابقاً شبة تام بين السنوات التي شهدت ما رأته الأوساط الصهيونية زيادة في ظاهرة معاداة للسامية والسنوات التي عرفت ارتفاعاً في عدد اليهود المهاجرين إلى فلسطين المحتلة.

ومعلوم أن "إسرائيل" تسعى لردم الفجوة الديموجرافية بين اليهود والعرب في فلسطين التاريخية، وليس أمامها من علاج إلا برفع نسبة الزيادة السكانية التي هي الآن 1.9% بين اليهود مقابل 2.7% بين العرب من ناحية، وزيادة الهجرة اليهودية من كل مجتمعات العالم إلى "إسرائيل" من ناحية أخرى. ولعل الترهيب بمعاداة السامية يعزز نزعة الهجرة من قبل اليهود لفلسطين.
ولجعل الصورة أكثر وضوحاً، لا بدّ من ربط الهجرات المعاصرة بالهجرات قبيل قيام "إسرائيل" وبعدها بقليل، ويتبين من هذه الصورة أن أجهزة الأمن الإسرائيلية، وتحديداً الموساد، لعبت دوراً في "خلق بيئة قلقة لليهودي" أينما كان لدفعه للهجرة قسراً إذا لم تُجدِ معه وسائل الإغراء،ويكفي أن نشير في هذا الجانب إلى مسألتين:

1. إثارة موضوع معاداة السامية من قبل "إسرائيل" لترسيخ فكرة أن "إسرائيل" هي الممثل والمدافع عن اليهود في كل العالم وليس في "إسرائيل" وحدها، وهو تمهيد لربطهم بها كخطوة أولى نحو جرهم لفلسطين لاحقاً، وهو أمر ليس منفصلاً عن موضوع الدولة اليهودية التي سعى بنيامين نتنياهو لتكريس فكرتها. ذلك يعني أن إثارة موضوع معاداة السامية، هي لتكريس فكرة أن الحامي لليهود خارج "إسرائيل" من العنصرية والهجمات العنيفة هي "إسرائيل"، وهو ما يجعل اليهودي يفكر في اللجوء لهذا "الحامي" له، وعليه فإن زيادة حدة معاداة السامية تقود مباشرة إلى تعزيز الارتباط بين اليهودي أينما كان وبين "إسرائيل"، فـ"إسرائيل" هي الدولة الوحيدة في العالم التي ليس لها حدود جغرافية واضحة ولا حدود ديموجرافية للمواطنة فيها بناء على قانون العودة لسنة 1950 وتعديلاته سنة 1970.

2. الدور الذي لعبته أجهزة المخابرات الإسرائيلية في نقل اليهود إلى فلسطين المحتلة، وما يسّر مهمة المخابرات الإسرائيلية في هذا المجال هو إرباك حياة اليهودي في هذه المجتمعات من خلال التشجيع "غير المباشر" أو العمليات السرية لمعاداة السامية، وتشير المخابرات الإسرائيلية (الموساد) على موقعها الإلكتروني إلى أن أحد مهامها هي نقل يهود الخارج إلى "إسرائيل" في الأوضاع المضطربة في أية دولة أخرى.

 ويؤكد مقال في صحيفة هآرتس سنة 2010 هذه الفكرة بالقول حرفياً:

لطالما اعتبرت أجهزة المخابرات الإسرائيلية نفسها مسؤولة ليس فقط عن أمن المواطنين الإسرائيليين، ولكن أيضاً عن أمن الجاليات اليهودية في الخارج. ويمكن إرجاع فكرة "أجهزة مخابرات الشعب اليهودي" إلى بيت الموساد، وهو فرع من الهاجاناه السري الذي جلب مهاجرين يهود غير شرعيين تحت أنظار الانتداب البريطاني، وظل يعمل بعد تأسيس الدولة، وتم تعيين وحدتين بدلاً من بيت الموساد، الذي تم حله في عام 1952. وكانت الوحدة الأكثر سرية هي وحدة التابعة للموساد، والمكلفة بالإشراف على هجرة اليهود من البلدان التي كانت حياتهم فيها معرضة للخطر. وكذلك حماية الجاليات اليهودية في الشتات، أما الوحدة الأخرى وهي وحدة ناتيف، فكان دورها تشجيع الهجرة من الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية، وبعد سقوط الستار الحديدي تم تكليف هذه الوحدة بإصدار تأشيرات الهجرة وإنشاء مراكز ثقافية وتتبع أي مظاهر معاداة السامية لتوظيفها سياسياً.

وتتأكد مهمة الموساد في مجال استثمار الاضطرابات في أي دولة وربطها بمعاداة السامية في الخارج وتوظيفها سياسياً من خلال بعض الأمثلة:

1. الهجرة الواسعة من العراق (1951-1950): فقد هاجمت الحركة الصهيونية إلى حدّ الاتهام بالخيانة قادة الطائفة اليهودية في العراق، وخصوصاً الحاخام ساسون خضوري، لأنه كان أقرب لتيار التعايش مع العرب، ووقعت انفجارات في أحياء يهودية في العراق دون أن تعلن أي جهة مسؤوليتها عن هذه الانفجارات، فكيف يمكن تفسير الهجوم على رجال الدين اليهود الداعين للتعايش مع مجتمعاتهم، والانفجارات التي تريد وضع اليهودي في هذه الدول في قلق شديد تدفعه للبحث عمن يساعده على الهروب؟ إنها المصلحة الإسرائيلية في توظيف معاداة السامية لزيادة السكان في "إسرائيل".

إن مراجعة الأدبيات الإسرائيلية حول دور أجهزة المخابرات الإسرائيلية أو التنظيمات اليهودية المرتبطة بالسفارات الإسرائيلية أو الأحزاب الصهيونية تدل، وبشكل لا لبس فيه، على أن "إسرائيل" قامت بأعمال عنف سرية ضد اليهود لإجبارهم على الهجرة لـ"إسرائيل" من خلال تأجيج فكرة معاداة السامية، ويكفي أن نشير إلى الوثائق التالية:

أ. كشف تقرير للسفارة البريطانية في بغداد بخصوص عمليات التفجير في العراق خلال الفترة 1951-1950 أن التفجيرات هي من تدبير "نشطاء صهاينة يريدون تسريع هجرة اليهود من العراق، ولجذب الأثرياء اليهود المترددين في الهجرة إلى إسرائيل".
ب. بعد موجة الهجرة اليهودية من الاتحاد السوفييتي بعد تفككه، لاحظت الحكومة الإسرائيلية أن هناك تزايداً في عدد المهاجرين اليهود من أوروبا الشرقية إلى دول أخرى غير "إسرائيل"، مثل أوروبا وخصوصاً فرنسا والولايات المتحدة وبعض دول أمريكا اللاتينية، وقد طلبت "إسرائيل" من الحكومة الألمانية منع منح تأشيرات هجرة لليهود ليضطروا للتوجه إلى "إسرائيل".

ج. منعت "إسرائيل" نشر كتاب هاجاي ايشيد وعنوانه "من أعطى التعليمات" سنة 1960 لأنه يتضمن معلومات عن عمليات قامت بها اجهزة الاستخبارات الإسرائيلية لإجبار اليهود على الهجرة لـ"إسرائيل".

د. من المعلوم أن "إسرائيل" أنشأت منظمات سرية خاصة—ملحقة بسفاراتها في الخارج—للعمل على وضع الخطط لدفع اليهود للهجرة إلى "إسرائيل" طوعاً أو قسراً، فمنظمة القلعة التابعة للموساد والتي تم إنشاؤها سنة 1967 وما تزال عاملة، تخصصت في تهجير اليهود من الدول العربية، بينما منظمة نيتف فتخصصت بالتهجير من أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي، وقد تفرع عن هذه المنظمة هيئة تسمى "بار"، وتعمل تحت ستار البعثات الدبلوماسية الإسرائيلية.

هـ. اتهامات المفكر النرويجي يوهان غالتنج، وهو أحد أبرز علماء الاجتماع المعاصرين وصاحب العدد الأكبر من التنبؤات السياسية المهمة. وقد أثارت صحيفة هآرتس هذه الاتهامات التي تتضمن الربط بين هجمات وقعت سنة 2011 في النرويج وقُتل فيها عشرات الأفراد، حيث أشار غالتنج إلى العلاقة بين المسؤول عن الهجمات وبين منظمة لها صلات وثيقة بالحكومة الإسرائيلية، وخصوصاً من خلال الموساد. كما أشار غالتنج إلى أن اليهود يمتلكون ست شركات إعلامية تسيطر على 96% من وسائل الإعلام، وأن 70% من أعضاء الهيئة التدريسية في أهم 20 جامعة أمريكية هم من اليهود، وهي عوامل تسهم في التلاعب بالرأي العام المحلي والدولي عند وقوع مثل هذه الأحداث وربطها بمعاداة السامية.

و. نظراً للموقف المؤيد للفلسطينيين من زعيم حزب العمال البريطاني السابق جيرمي كوربن تم تجميد عضويته في الحزب بحجة "معاداة السامية"، وقد وصف كوربين ذلك بقوله "إن حجم معاداة السامية داخل حزب العمال تمّ المبالغة فيه بشكل كبير لأسباب سياسية من قبل خصومنا داخل الحزب وخارجه" في إشارة لـ"إسرائيل" وغيرها.

2. الدور الذي لعبته المنظمة العالمية ليهود الأقطار العربية التي مارست نشاطاتها خلال الفترة 1999-1975، ولعبت شخصية مردخاي بن بورات الذي عمل مبعوثاً للموساد في إيران دوراً مهماً في هذه المنظمة ونشاطاتها الخاصة بهجرة اليهود العرب، بل ينتقد أحد قادة هذه المنظمة وهو الدكتور جاك بارنز من أنه "لم يجد أحداً يوظف قضيتنا (اليهود العرب) بنفس مستوى توظيف قضية المحرقة (الهولوكوست) ومعاداة السامية".

ثانياً: توظيف معاداة السامية لتعزيز الحس القومي اليهودي

كثيراً ما يتم استخدام تعبير السامية لتأكيد الهوية القومية لليهود، خصوصاً غير المتدينين منهم، فالعلماني اليهودي في أوروبا أكثر تقبلاً لفكرة "العرق السامي" لأنها تكثف المضمون القومي على حساب المضمون الديني الذي ليس له المكانة نفسها في المنظومة المعرفية لهذا العلماني، وقد نبهت استطلاعات الرأي العام الدولية صناع القرار في الحكومة الإسرائيلية على أن نسبة النزعة الدينية بين اليهود خارج "إسرائيل" تتراجع، إذ بينت أحد هذه الدراسات أن 38% من يهود العالم يعدّون أنفسهم متدينين، مقابل 54% غير متدينين و2% ملحدين، وهي صورة تتناقض مع نسبة التدين في "إسرائيل"،[16] وعليه شعرت النخبة الحاكمة في "إسرائيل" أن تعبير "معاداة السامية" له صدى أقوى من تعبير "اليهودية" في صفوف يهود الخارج، ومن هنا أصبحت الأدبيات الصهيونية تركز على التعبير العرقي في الخارج أكثر من التعبير الديني قياساً بالمراحل السابقة، فاليهودي غير المتدين أقل قابلية للإقدام على الهجرة لدولة دينية، لكن اليهودي "الإثني أو العرقي" أكثر قابلية عندما يُصنف بانتمائه للسامية.

وتشير الدراسات المتخصصة في هذا المجال إلى أن الصهيونية تستخدم تعبير السامية في دول أقل عناية بالأصل الديني للفرد، بينما تستخدم تعبير اليهودية في الدول التي تولي أهمية للتراث الديني، وقد تناول الكثير من الباحثين، لا سيّما الغربيين منهم، هذه الازدواجية في الأدبيات السياسية الصهيونية، وفي مرحلة لاحقة تمّ الربط بين معاداة السامية ومعاداة الصهيونية واعتبارهما وجهان لعملة واحدة، وتمت ملاحقة عدد من الكتاب والسياسيين في دول أوروبية ممن انتقدوا الصهيونية وتمّ اعتبار انتقاداتهم للصهيونية شكلاً من أشكال معاداة السامية.

ثالثاً: توظيف معاداة السامية لردع نقاد السياسات الإسرائيلية في المجتمع الدولي
ويتجلى توظيف معاداة السامية في هذا البعد في الجوانب التالية:

1. الحذر من تأييد الفلسطينيين: كان للسياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين أثرها السلبي على صورة "إسرائيل" في الذهن الأوروبي بشكل خاص والعالمي بشكل عام، وترتب على ذلك تزايُدُ التعاطف مع الفلسطينيين، وأدركت "إسرائيل" خطورة ذلك، لذا بدأت في توظيف معاداة السامية من خلال ربط "الهجمات على اليهود أو معابدهم" بالفلسطينيين أو مؤيديهم من الجماعات الأوروبية لحقوق الإنسان أو غيرها خصوصاً الحركات الإسلامية، بغض النظر عن مدى توفر الأدلة على هذا الادعاء.

ويمكن توضيح الفكرة السابقة ببعض الأمثلة؛ فقد أدى القتال الذي نشب بين المقاومة و"إسرائيل" في أيار/ مايو 2021 إلى زيادة التوترات في الولايات المتحدة بين مؤيدي "إسرائيل" وأنصار الفلسطينيين، الأمر الذي دفع رابطة مكافحة التشهير وهي منظمة يهودية دولية مقرها نيويورك—إلى الإشارة بأنها شهدت "تصاعداً خطيراً وجذرياً" في جرائم الكراهية المعادية للسامية منذ اندلاع الصراع، وقال جوناثان جرينبلات، الرئيس التنفيذي لرابطة مكافحة التشهير في بيان له "إننا نتتبع أعمال المضايقة والتخريب والعنف بالإضافة إلى سيل من الانتهاكات عبر الإنترنت” تجاه اليهود، وأضاف: "أن ذلك يحدث في جميع أنحاء العالم". وكتبت خمس مجموعات يهودية رسالة إلى الرئيس جو بايدن أعربت فيها عن قلقها إزاء التصاعد الأخير لجرائم الكراهية المعادية للسامية في الولايات المتحدة وسط المواجهة العسكرية بين "إسرائيل" والمقاومة الفلسطينية، ودعت الجالية اليهودية الأمريكية، ورابطة مكافحة التشهير، والاتحادات اليهودية لأمريكا الشمالية، وهداسا، واتحاد التجمعات اليهودية الأرثوذكسية الأمريكية، الرئيس الأمريكي بايدن لاستخدام برنامجه لإدانة معاداة السامية واتخاذ عدد من الإجراءات لمكافحة معاداة اليهود.

وأشارت هذه المنظمات في رسالتها إلى أنها "تخشى أن الطريقة التي استخدم بها الصراع لتضخيم الخطاب المعادي للسامية، وتشجيع الجهات الفاعلة الخطرة لمهاجمة اليهود والمجتمعات اليهودية، الأمر الذي ستكون لها تداعيات أبعد مما نشهده بكثير خلال فترة القتال في الأسبوعين الماضيين".

2. من الضروري التنبه إلى أن ارتفاع وتيرة الحديث عن معاداة السامية تتزايد في الفترة التي يتعرض لها الفلسطينيون إلى قدر أكبر من الاعتداءات، فالدراسات والتقارير الغربية تؤكد ذلك من خلال المؤشرات التالية:

أ. أول مرة ترتفع نداءات مواجهة معاداة السامية بشكل كبير في الولايات المتحدة سنة 1994 بعد واقعة قيام يهودي أمريكي بمجزرة في الحرم الإبراهيمي في الخليل، والذي قتل وجرح فيها قرابة 130 فرداً فلسطينياً، وكانت ردة الفعل في الشارع الأمريكي قوية، مما دفع لإحياء موضوع معاداة السامية لامتصاص آثار الجريمة ضدّ الفلسطينيين.

ب. تزايدت وتيرة حملات إثارة "معاداة السامية" ثانية بشكل كبير في كانون الأول/ ديسمبر 2000، مع اشتداد الانتفاضة الفلسطينية وما نجم عنها من تعاطف دولي مع الشعب الفلسطيني.

ج. عادت موجة الحديث عن معاداة السامية في أيار/ مايو 2021، بعد أن بدأت وسائل الإعلام في نقل تدمير "إسرائيل" للمنازل والقصف العنيف على غزة إلى جانب ضرب أبراج سكنية تضم مراكز إعلامية مختلفة، إلى جانب انتقاد مؤسسات المجتمع المدني العالمية وهيئات حقوق الإنسان السياسة الإسرائيلية.

رابعاً: إثارة يهود الخارج لاستمرار دعم "إسرائيل" مادياً ومعنوياً

تسعى "إسرائيل" إلى توظيف وقائع معاداة السامية لإعادة تعزيز الترابط بين يهود الخارج و"إسرائيل"، خصوصاً في الولايات المتحدة كما ذكرنا سابقاً، فمعلوم أن نسبة انتقاد يهود الولايات المتحدة للسياسات الإسرائيلية تتزايد، وهو أمر لا تراه "إسرائيل" إيجابياً، لكن معاداة السامية ستشد هذا الجمهور اليهودي ثانية لـ"إسرائيل".

وتشير الأرقام الرسمية الأمريكية أنه خلال الأسبوعين السابقين على معركة سيف القدس في أيار/ مايو 2021، وقع 127 حادثاً مما يمكن وصفه معاداة السامية، لكن العدد ارتفع إلى 222 حادثاً خلال أسبوعين من تفجر القتال بين المقاومة الفلسطينية والجيش الإسرائيلي، وأن ظاهرة الترابط بين زيادة الهجمات وبين وقوع اشتباكات عسكرية فلسطينية إسرائيلية أمر تؤكده فترات الاشتباك السابقة، لكنها في معركة سيف القدس عرفت تزايداً في النسبة، طبقاً لأرقام هيئة مكافحة التشهير الأمريكية.

بل يلاحظ أنه في الفترة التي دانت فيها المنظمات الدولية (الحكومية أو غير الحكومية) أهداف الغارات الإسرائيلية في معركة سيف القدس فإن هجمات "معاداة السامية" تزايدت مباشرة، مما دفع هذه المنظمات (مثل منظمة العفو الدولية) لإصدار بيانات تدين معاداة السامية، مما يوجِد توازناً مع البيانات الشديدة التأييد للفلسطينيين.

الخلاصة
إن الديبلوماسية الإعلامية الإسرائيلية تقوم في موضوع معاداة السامية على الأسس التالية:
1. تعمم مفهوم معاداة السامية على أي نقد للسياسة الإسرائيلية في أي مجال من مجالات العلاقات الدولية.
2. اعتبار أي نزعة تعاطف إنساني مع الفلسطينيين أو الدعوة لحقوقهم بأنها تعبير عن نزعة لا سامية.
3. إيجاد حالة من القلق لدى اليهود في الخارج لتشجيعهم على الهجرة لـ"إسرائيل".
4. منع فتور حماس يهود الخارج لـ"إسرائيل"، وضمان استمرار تأييدهم لها بالمال، وبتسهيل فتح القنوات أمام نشاطاتها السياسية والاستخبارية والاقتصادية في الدول التي يتواجدون فيها.
5. لا تتورع "إسرائيل" من تضخيم أو افتعال أحداث أو أعمال عنف بشكل مباشر أو غير مباشر، ثم ربط هذه الأحداث بمعاداة السامية لتحقيق الأهداف المشار لها أعلاه.

التوصية:
لا بدّ للمؤسسات الحقوقية، ومراكز الأبحاث العربية والفلسطينية، وقوى المقاومة من تتبع ورصد الوقائع التي تدلل على الربط بين "دبلوماسية توظيف معاداة السامية" التي تنتهجها "إسرائيل" وبين هذه الوقائع، والعمل على تعميم نتائج هذا الرصد على وسائل الإعلام المختلفة وعلى البعثات الديبلوماسية والباحثين، خصوصاً في الدول والمجتمعات الأجنبية.