أيهما أعقل المجانين أم العقلاء ؟؟

المجانين شريحة من بني الإنسان لا يفكّر أحد بمخاطبتهم بأفكار تتعلق بالشؤون السياسية والقضايا العامّة ؛ لأنّ العقلاء المعقولين بعقال العقل متفقون على أنّ هذه الفئة ساقط عنها التكليف فلا تؤاخذ على فعل الشرّ ولا يرجى منها الخير ما لم تشف من مرضها الذي مزّق كلّ حبل وانطلق من كلّ عقال .
يقال لا يفهم لغة المجانين إلاّ المجنون , وكلمة لغة هنا هي تعبير دقيق عن مدلولها فما اللغة إلاّ كلام يعبّر عمّا يجول داخل نفس الإنسان من مشاعر وأفكار كما قال الشاعر : ( ان الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا ) ..... وهذه حقيقة في حقّ المجانين فقط , فالمجنون يعبّر بصدق عمّا يشعر به من أحاسيس ومشاعر , وعمّا يقتنع به من مفاهيم وأفكار , ولا يضيره أن يكون ثمّة "خلل فنّي " في دماغه أو حواسّه أو مشاعره ما دام يعبّر بصدق عمّا يحسّ به من مشاعر أو يقتنع به من أفكار دون تزييف أو نفاق .
"المعقول بعقال العقل" يختلف عن المجنون بقدرته على التحدث بأفكار هي عكس قناعاته الباطنية , ويعبّر عن مشاعر هي نقيض ما يحسّ به , ومن العقلاء من وهبه الله موهبة أعلى من ذلك إذ يستطيع اقناع نفسه قبل غيره بما يمارسه من كذب وتزييف فيقنعها بأنّها تحبّ ما تبغض , وتعتقد بصحة ما تجزم ببطلانه .... يستطيع العاقل أن يجلس في الشمس اللاهبة على باب السيّد الذي يجلس في النعيم وإذا ما قابله سيّده وقال له : لعلّ الحرّ آذاك ... قال له : إنّ خدمتك شرف وهذا الشرف يجعلني استعذب العذاب وأتلذذ به كما يتلذذ المترف بالنعيم .... العاقل هو الوحيد الذي يستطيع أن يكفكف دموعه من آثار صفعة أو ركلة من سيّده ويخرج للناس قائلا : سيّدي أطال الله عمره طلبني _ بأبي وأمي هو _ يستشيرني في بعض الأمور .... العاقل وحده هو الذي يستطيع أن يقف في الصفّ رزينا أمام عيادات الاختصاص وهو يرتجف من شدّة المرض أو في صفّ دفع الرسوم أو الضريبة أو سائر الصفوف وإذا ما وصل بعد ساعتين إلى المسؤول المكفهر العابس بدأ يكيل له عبارات المدح والثناء وذاك لا يلقي له بالا !! العاقل هو الوحيد الذي يشاهد الذئب يعيث فسادا في زريبة غنمه فيتركه ويذهب يبحث عن الأثر !! العاقل هو وحده الذي يلدغ من الجحر خمس مرات في اليوم الواحد ثمّ يعود إليه باكرا في صباح اليوم التالي ..... العاقل هو الوحيد الذي يتقيأ في سمعه الآخرون بأكاذيبهم وسخفهم وتفاهاتهم وهو مصغ لما يقولون مبد تفاعله مع أكوام السخف والتفاهات ..... العاقل هو الوحيد القادر على تصديق كلّ الأطراف المتخاصمة , وهو القادر على حشر النقيضين والمتضادين في دماغه المعقول بالعقال ...... ربما تظنون ذلك مبالغة أو نادرة وسأذكر لكم قصّة شاهدها ملايين العقلاء على شاشة التلفاز قبل أعوام فقد كان التلفاز ينقل وقائع جلسة لمجلس نواب عربي , فأقترح أحد أقطاب المجلس اقتراحا , واقترح قطب آخر اقتراحا مناقضا لاقتراح الأول , والمناقضة بين الاقتراحين واضحة جليّة كالتناقض بين [لا ونعم ] , فقام نائب ثالث وقال : أنا أؤيد اقتراح فلان وفلان , فما كان من رئيس المجلس إلاّ أن انتهره لافتا نظره للتناقض بين الاقتراحين , ولسوء الحظّ سلطت الكاميرا على ذلك النائب فأحمرّ وجهه وارتبك .... والنائب لا يجهل ذلك التناقض ولكنّ عقله أمره بأن يؤيد المتناقضين لئلا يغضب أحدا من الطرفين !!
المجنون يختلف اختلافا جوهريا عن العقلاء فلا يمكن أن تلذعه بسيجارتك فيبتسم ويشكرك , ولن يتمادى ويقول إنّها مفيدة عن أمراض البرد , ولن يبالغ ويقول كنت أتمناها ليبقى أثرها للذكرى العطرة .... المجنون سيردّ عليها بصرخة مدويّة وصفعة ذات رنين تصيب الأذن بالطنين وربما أردفها بلكمة تهشّم الأنف , وربما ألحق بها ركلة تجعل المثانة تفرز دما ..... وربما هاج وأسقط لاذعه أرضا واستمر بالرقص على جسده حتى يتركه جثّة هامدة .
المجنون إذا جاع لا يحتاج أن يذهب لصديق ويمكث عنده بضع ساعات ثمّ يحدثه بأدب واستحياء عن ظروفه المعيشية وأنّه بحاجة إلى عشرين دينار ليشتري بها هدية لأحد الأصدقاء , ويعده بارجاعها بعد عشرة أيام ثمّ يأخذها ويهرب , ويهجر صديقه عشرة أعوام فرارا من السداد .... المجنون إذا عضّه الجوع مدّ يده لأول من يلتقيه من البشر وقال : اعطني فأنا جائع .... هكذا بدون لفّ أو دوران أو حلف أيمان .
المجنون يترك لطبيعته العنان فيصرخ متى شاء ويبكي متى شاء ويقهقه متى شاء ويأكل كيف شاء , وينام متى شاء , ويبصق في وجه من يراه أهلا للبصق ..... فبالله عليكم أيهما أسعد العقلاء أم المجانين ؟؟ وبعبارة أصرح وأوضح وربما أوقح نقول : أيّ الفريقين أكثر عقلا وأهدى سبيلا ؟؟ وما الفرق بين المجنون الذي يكتفي بكسرة لسد جوعته والذي يضحي بمصالح مجتمعه وقضاياه في سبيل مصلحة شخصية تافهة , وكلّ مصلحة شخصية تتعارض مع مصالح المجتمع فهي تافهة .
فلاح أديهم المسلم / بني صخر .