" الطامّة جهل الكبراء وأهل العقد والحلّ بأحوال الشعب "
أهل العقد والحلّ أو الملأ عند العرب هم : الرؤساء وأشراف القوم ووجوههم ورؤساؤهم ومقدموهم الذين يرجع إلى قولهم " , وهم بتعبير المعاصرين الذين يمثلون الوسط السياسي والذي يطلق على أعوان الحكام ، من أصحاب المصالح وكبار الأغنياء وزعماء الناس وسادتهم ، وأصحاب الصالونات السياسية , وقادة الأحزاب والشخصيات المؤثرة في المجتمع , وهؤلاء هم أصحاب الصوت المسموع , الذي يستعين بهم الحاكم في إدارة شؤون الدولة , وسياسة الشعب ,يقول محمد رشيد رضا "إن أهل الحل والعقد هم سراة الأمة وزعماؤها ورؤساؤها ، الذين تثق بهم في العلوم والأعمال والمصالح التي بها قيام حياتها ، وتتبعهم فيما يقررونه بشأن الديني والدنيوي منها ، وهذا أمر من ضروريات الاجتماع في جميع شعوب البشر ، تتوقف عليه الحياة الاجتماعية المنظمة ، قال شاعرنا العربي : ( لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ** ولا سراة إذاجهالهم سادوا ) وإذا صلحت هذه الفئة من الأمة صلح حالها وحال حكامها ، وإذا فسدت فسدا ".
ومعلوم أنّ السياسة ليست بتلك الصورة المبسطة التي يظنّها البعض فهي أشرف الصناعات وأشقّها , وتستدعي من الكمال فيمن يمارسها ما لا تستدعيه سائر الصناعات كما يقول الإمام الغزالي , وعدها علماء الحكمة والفلسفة من العلوم العلوية ( علوم الحكمة ) فيقول الطاهر بن عاشور في حديثه عن أقسام الحكمة " الرابع تقويم الأمة وإصلاح شؤونها وهو المسمّى علم السياسة المدنية" , وهي التي صنفت فيها الكتب التي ترشد من يمارسها لكيفية ممارستها , والشروط الواجب توفرها فيمن تسند لهم الأمور ومبادئها العامّة , ودقائقها , يقول الجاحظ : " يقول الجاحظ : "وليس في الأرض عملٌ أكدّ لأهله من سِياسة العوامّ " ويقول الهذلي :
وإن سياسة الأقوامِ فاعلمْ ... لها صَعْدَاءُ مَطلبُها طويل
؛ وذلك لأنّ السياسة هي رعاية لشؤون الناس لتحقيق مصالحهم وصلاحهم , ودفع الضرر عنهم وبتعبير آخر هي تأهيل الإنسان فردا ومجتمعا ليرتفع إلى مستوى الاستخلاف في الأرض .
قدّمت بهذه المقدمة الضرورية وأنا أريد الحديث عمّا لاحظته من جهل فظيع يعاني منه السادة الكبراء من أهل العقد والحلّ أو الملأ بأحوال الشعب وهمومه وقضاياه _ تجعل الشعب يتيقن أنّه يعيش في واد وكبراؤه في واد وبين كلّ منهم وبين الآخر تلال وجبال , ومفازات وأهوال !!
كان الشعب يضجّ من الوزراء الذين لا يعرفون الأردن , ويحمّلهم مسؤولية الأخطاء والخطايا التي أوصلت الوطن لحال جعلته يترحم على أيام الستينيات وما قبلها , ويتمنى عودة رموزها , وساستها , وكان يظنّ أنّه لو أطلقت أيدي الوطنيين أو البرجوازية الوطنية المكبّلة لعملوا المعجزات , ولأخرجوا الوطن من جميع الأزمات , فجاء الربيع العربي , وارتفعت الأصوات , وتشكلت الهيئات , والجبهات والرقميات , والتيارات , وبدأ عرض البضاعة على الفضائيات , فظهر للجميع أنّ القاسم المشترك بين الفريقين المتصارعين هو الجهل الفظيع بأحوال الشعب وقضاياه وهمومه وآماله وآلامه , وتبين بما لا يدع مجالا للشك بأنّ السادة الكبراء يعيشون في عالم غير عالمنا , ويحملون هموما لا تمت لهمونا بصلة , وأود في هذه المقالة الاقتصار على بعض النماذج التي توضّح هذه الحقيقة المرعبة :
1. أحد الباشوات في إحدى الفضائيات يتحدث على إحدى المحطات الفضائية المحلية عن حادثة إغلاق شارع عمان العقبة يوم 12/10/2011م بإشارة عابرة بأسلوب استفزازي استعلائي ينبيء عن جهل فضيع بأحوال المجتمع الأردني الذي يزعم أنّه يسعى لإصلاحه , فقال : الخطر ليس بالمسيرات الأسبوعية التي يقوم بها الحراك الشعبي أسبوعيا ..... وضرب أمثلة من الأمور الخطيرة كان أولها على حدّ قوله ما شاهده من إغلاق الطريق الصحرواي من قبل فئات تريد بلدية لكّل عشرة بيوت, وأنا أجزم بأنّ هذا الباشا الإصلاحي المومن إليه لا يعرف عن هذه البيوت وأصحابها إلاّ ما يعرفه كاتب هذه السطور عن شرق الصين , ومع هذا فإنّ كلمة أمثاله لها وزنها عند أصحاب القرار ؛ لأنّ "كلام الباشا" "باشا الكلام" فاللقب عصمة من الخطأ ألم يقل هشام بن عبد الملك عندما بويع بالخلافة : " الحمد لله الذي أنقذني من النار بهذا المقام" ؟؟!! وما كنّا لنأمل منه ومن أمثاله أن يطالب بمحاكمة الذين أجبروا الناس على اللجوء للشوارع عند المطالبة بأبسط الحقوق ؛ لأنّ هموم الناس البسطاء ليست في قاموسه ولا سبيل لها أن تتسرب إلى قلبه الكبير الطهور !!
2. وتتكرر نفس القصّة مع باشا من الوزن الثقيل , وفي موقع حسّاس , يظهر على فضائية للحديث عن حوادث القطرانة التي وقعت يوم السبت 10/12/2011م بسبب قضية أرض عشائر الحجايا , واستمر الحوار أكثر من أربع ساعات وكان متمترسا حول مقولة أنّه لا يوجد في القانون نصّ على الواجهات العشائرية , وأبى أن يستوعب أنّ الحجايا لا يطالبون بواجهة عشائرية , وإنما يطالبون بتفويض أراضيهم التي يملكونها منذ مئات السنين أسوة بغيرهم من العشائر الأردنية التي سجلّت أراضيهم بأسمائهم منذ عشرات السنين , وكنت أسمع بالمثل المولد "عنزة ولو طارت" وما كنت أصدّق أنّه يقع فعلا في عالم البشر إلاّ عندما شاهدت الباشا المذكور , وذهلت أكثر عندما لمست أنّ الرجل ليس لديه معلومات عن قضايا أراضي العشائر , ولو كان الرجل من غير أبناء العشائر العريقة لالتمسنا له العذر , ولو كان من النكرات وعامّة الناس لعذرناه , ولكنّه علم عشائري من عشيرة عريقة لها وزنها , وفي موقع حساس ومنصب رفيع من بيوت الخبرة والحكمة .
3. قبل ثلاثة أعوام تقريبا ساقني حظّي العاثر لمقابلة وزير وزارة مهمّة بمعية أحد النواب الأفاضل , وتحدّثت معه عن علاوة لصنف من الموظفين , وكيف يحرم منها موظفون يعانون أضعاف ما يعانيه الذين تصرف لهم وضربت له أمثلة من موظفين يقطعون في اليوم مائة وخمسين كلم للذهاب لمكان عملهم ولا يحصلون على تلك العلاوة , ويحصل عليها موظف لا يقطع ربع هذه المسافة , فأجاب بتعال وحدّة بأنّه يرفض مجرد الحديث عن هذا الأمر ؛ لأنّ القانون لا يسمح بذلك , وهو يطبّق القانون بغضّ النظر عن سلبياته !! وهل يعجز معاليه أن يكتب لرئاسة الوزراء ليعدّل هذا القانون المقدّس الذي اعتدنا على تعديله لخدمة شركة أو متنفذ ؟؟
4. قبل أعوام التقى جلالة الملك مع شيوخ ووجهاء الناس ليستمع إلى مطالب الناس وهمومهم وكان الحديث يدور عن الهموم العامّة , فقام رجل من العيار الثقيل من الذين تقلّدوا المناصب الرفيعة , ووراءه شريحة تعاني من الفقر والبطالة والحرمان ووقفت معه تلك الشريحة في الانتخابات النيابية وقفة مستقتلة صادقة , وكاد يموت بعضها أسى وحسرة لأنّه لم يحالفه الحظّ بتلك الانتخابات , فكان المتوقع أن يتحدث عن شيء من همومها ومعاناتها وهو المفوّه اللسن, والخطيب المصقَع , فماذا قال وماذا طلب ؟؟ قال : يا جلالة الملك فلان وفلان شباب أفذاذ تخرجوا من جامعة كذا وكذا ( جامعات أجنبية مرموقة ) وهم يرغبون بمقابلة جلالتكم !! وهؤلاء الشباب هم أولاد ذلك الرجل !!
أين هؤلاء الوجهاء والشيوخ من أمثال الأحنف بن قيس حيث جاء في التاريخ ما نصّه : " قدم وفد العراق على معاوية وفيهم الأحنف ، فقام الآذن وقال: إن أمير المؤمنين يعزم عليكم أن يتكلم أحد إلا لنفسه ، فلما وصلوا إليه قال الأحنف: لولا عزمة أمير المؤمنين لأخبرته أن رادفة ردفت ، ونازلة نزلت ، ونائبة نابت ، والكل بهم الحاجة إلى معروف أمير المؤمنين وبره. فقال: حسبك يا أبا بحر فقد كفيت الغائب والشاهد " (1) . بل أين هؤلاء من أمثال هذا الغلام الذي جاء في قصته ما نصّه " أنّ البادية قحطت في أيام هشام بن عبد الملك , فقدمت عليه العرب , فهابوا أن يكلموه , وكان فيهم درواس ابن حبيب وهو ابن ست عشرة سنة له ذؤابة , وعليه شملتان , فوقعت عليه عين هشام فقال لحاجبه : ما شاء أحد أن يدخل علي إلا دخل حتى الصبيان , فوثب درواس حتى وقف بين يديه مطرقا فقال : يا أمير المؤمنين إن للكلام نشرا وطيا , وإنه لا يعرف ما في طيه إلا بنشره , فإن أذن لي أمير المؤمنين أن أنشره نشرته , فأعجبه كلامه , وقال له أنشره لله درك فقال يا أمير المؤمنين إنه أصابتنا سنون ثلاث : سنة أذابت الشحم , وسنة أكلت اللحم , وسنة دقت العظم , وفي أيديكم فضول مال , فإن كانت لله ففرقوها على عباده ,وإن كانت لهم فعلام تحبسونها عنهم , وإن كانت لكم فتصدقوا بها عليهم فإن الله يجزي المتصدقين . فقال هشام : ما ترك الغلام لنا في واحدة من الثلاث عذرا فأمر للبوادي بمائة ألف دينار , وله بمائة ألف درهم فقال: ارددها يا أمير المؤمنين إلى جائزة العرب، فإني أخاف أن تعجز عن بلوغ كفايتهم . فقال: أما لك حاجة؟ قال: ما لي حاجة في خاصة نفسي دون عامة المسلمين " !!
إنّ الحاكم مهما كان ملهما وفذّا فإنّه لن يستطيع أن يدير الدولة إلاّ برجال أفذاذ , والرجال الذين يديرون الدولة عملة نادرة شكى من ندرتهم عمر بن الخطاب في زمن الرجال , إذ يروى " عنه رضي الله عنه " أنّه قال لأصحابه: تمنوا، فقال بعضهم: أتمنى لو أن لي هذه الدار مملوءة ذهباً أنفقه في سبيل الله، ثم قال: تمنوا، فقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤاً وزبرجداً وجوهراً فأنفقه في سبيل الله وأتصدق به. فقال عمر تمنوا: فقالوا: ما ندري ما نتمنى يا أمير المؤمنين، فقال عمر: أنا أتمنى لو أنها مملوءة رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة وحذيفة بن اليمان أستعين بهم على أمور المسلمين " .
وإنّ النقص في هذا الصنف من الرجال هو سبب دمار الدول وضعفها واندثارها فقد سئل بزرجمهر: ما بال ملك بني ساسان صار إلى ما صار إليه ، بعدما كان فيه من قوة السلطان وشدة الأركان؟ فقال: [ ذلك لأنهم قلدوا كبار الأعمال صغار الرجال] ؛ ولذلك قالت الحكماء: موت ألف من العلية أقل ضرراً من ارتفاع واحد من السفلة " , وفي الأمثال: " زوال الدول باصطناع السفل " , وقال الشافعي رحمه الله: أظلم الناس لنفسه اللئيم إذا ارتفع : جفا أقاربه , وأنكر معارفه ، واستخف بالأشراف , وتكبر على ذوي الفضل " .
وعدم إحسان اختيار الرجال للمواقع القيادية , وتصدّر الرويبضات هو من علامات نهاية الدول والمجتمعات , فقد جاء في الحديث الصحيح : " إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة . قال كيف إضاعتها ؟ قال إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة " , والساعة هنا كما قال العلماء المحققون ليست الساعة الكبرى وإنما هي ساعة الدولة والمجتمع , فذلك علامة نهايتها وخرابها , وكم رأينا من يفهم الأحاديث النبوية على غير وجهها , ويظنّ أنّها تتحدث عن قدر لازم لا يمكن دفعه أو تغييره , ومن ذلك قوله صلوات الله وسلامه عليه : " إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ سِنِينَ خَوَادِعَ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ ؟ قَالَ : التافه يتكلم في أمر العامّة " (3) فيظنّ الجهلة أنّ ظهور هذه الصفات في مجتمع هي نهاية المطاف , وأنّ الساعة الكبرى قد اقتربت , ولم يعدّ مجالا للإصلاح , والحقيقة أنّ هذا الحديث يحذّر من هذه الظواهر الخطيرة , وينهى عنها , ومعناه " إياكم أن تصدقوا الكاذب , وتكذبوا الصادق .... إلخ , ولا تسمحوا للرويبضة = ( الفاسق , التافه , السفيه ) أن يتكلّم في أمور العامة وقضاياها , فإن لم تفعلوا ذلك فهو نهايتكم واندثاركم من باب ربط السبب بمسبباته .
وأذكّر هنا بأنّ جلالة الملك عبد الله الثاني حفظه الله هو أول من تنبّه لهذا الخلل الذي يعاني منه الوسط السياسي الأردني أو أهل العقد والحلّ فحاول أن يشكّل لجانا من الشباب منذ عدّة أعوام على أمل تنجو من هذا الداء الوبيل إلاّ أنّها قد أُفشلت بأساليب مختلفة , والأمل بالشباب وخاصّة الناشطين وقادة الحراك السياسي الذين خرجوا من رحم المعاناة الشعبية بأنّ يتعاونوا مع جلالة الملك لإنقاذ الوطن من الفساد لئلا يدفع الوطن للانفجار حيث أنّ قوى الفساد ومراكزه تعمل وفق مبدأ شمشون الجبار " عليَّ وعلى أعدائي ياربَّ " , وما أعداؤهم إلاّ الصلاح والإصلاح والصالحون , لأنّ المستنقع الآسن دائما تخشى ديدانه من المطهّر الفتّاك .
فلاح أديهم المسلم بني صخر
12/12/2011م