“هويات” الفلسطيني..!

اخبار البلد - 

 

كُتب – وسيُكتب- الكثير عن الهوية الفلسطينية، ضمن السياق الأوسع لمبحث "الهوية” كشاغل إنساني. وتتميز الهوية من التعقيد بسبب فرادة الخبرة. إنها ليست مسألة هوية وطنية تعاني تحت استعمار من النوع المعروف، ولا هوية مهاجر طوعي أو اقتصادي، ولا هوية لاجئ غادر وطنه القائم بسبب اضطرابات أو تمييز. في الحالة الفلسطينية، كانت الفكرة هي الإلغاء الكامل لمفردات فلسطين وفلسطيني ومشتقاتها، بحيث تخرج هذه الهوية من الوجود جملة وتفصيلاً لتحل محلها مفردات جديدة في العالم: "إسرائيل” و”إسرائيلي”. وكما حدث، عاشت أجيال من الفلسطينيين في المنفى الإجباري بعد تهجير الآباء بالقوة، وترتب على الملايين التصارع مع مفهوم الهوية وتجلياتها بطرق غير مسبوقة تقريباً.
قد يختار المهاجر الذي غادر وطنه بحثاً عن الفرصة، أو اللاجئ الهارب من الاضطهاد، أن يخفي هويته الأصلية ويتقمص هوية الثقافة المضيفة لتسهيل اندماجه. وقد ينجح في هذا المسعى بدرجات متفاوتة أمام معارضة قوى الطرد المحلية. لكنّ كل الفلسطينيين في المنافي تقريباً يختارون العكس: إنهم يؤكدون على هويتهم الأصلية بالمتاح من الطرق، ويعرضون كل ما يمكن عرضه من رموزها. وسوف تجد أجيال الفلسطينيين الجديدة ما تزال تحتفظ بلهجاتها الأصلية، وبالأثواب التراثية، والخائط والرسومات والمحكيات والأغاني والرقص الشعبي. وفي كثير من الأحيان، يكون ذلك بكلفة، حيث تميل مجتمعات الأقليات المهاجرة في الغالب إلى الذوبان في المجتمعات الجديدة لتحقيق أقصى فائدة من الاندماج والمواطنة حيث يمكن كسب جنسية.
يريد الفلسطينيون، ويحرصون على الاحتفاظ بصفة "لاجئ” وتوثيقها، مع الاستعداد لتحمل التبعات النفسية والعملية التي ترتبها هذه الصفة، لكن هذا لا يعني أن الفلسطينيين يرفضون حمل هويات أخرى، حيث يتسبب حرمانهم منها في جعل حياتهم صعبة، ولعل أبرز مثال عملي على ذلك هو ظروف الفلسطينيين القاسية المعروفة في لبنان. ويجد هؤلاء الفلسطينيون الذين وجدوا أنفسهم هناك أنهم مرفوضون، إما على أساس عدم الإخلال بالتركيبة الديمغرافية، أو بحجة أن منحهم جنسية أخرى يضر بقضيتهم الوطنية، على أساس أنهم يجب أن يظلوا فلسطينيين فقط حتى تظل المطالبات بفلسطينيين حية. وعليهم لذلك أن يتحملوا الحرمان من الوظائف، والتملك، والسفر، والمشاركة السياسية والمطالبات الخدمية وعشرات المتطلبات الأساسية للعيش الكريم.
الأجيال الجديدة من الفلسطينيين في المنفى، مثل أي أشخاص يولدون هم وآباؤهم في أي مكان، يغلب أن ينطووا على الانتماء الطبيعي إلى مسقط الرأس ومكان النشأة. إنهم يحتفظون بعاطفة أي مواطن في العالم لوطنه الذي ولد فيه وامتزج به والذي يؤسس تكوينه. وهم كذلك ملزمون، بغريزة البقاء التي تكون جزءًا من تكوين الشعوب مثل الأفراد، على الدفاع عن هويتهم كشعب مهدد بالإلغاء، ولذلك، سيكون للفلسطيني حيث أمكن في المنفي علمان وطنيان، ونشيدان وطنيان، وفريقان رياضيان وطنيان. وسوف يجلّ العلمين والنشيدين ويشجع الفريقين ويحرض على تجنب التصادم بينهما، لأنه في النهاية صدام داخلي ممزّق.
وفي الطريق، عليه أن يتعامل مع جملة من الأشياء. في الغالب، في حالة المهاجرين "الطبيعيين”، يُطلب من "الغرباء” الاندماج تماماً في المجتمعات المضيفة ويلامون على مظاهر هوياتهم الفرعية باعتبار ذلك ازدواجية انتماء. وفي حالة الفلسطينيين، يتم التسامح أحياناً مع تأكيدهم على رموزهم الأصلية على أساس إدراك خصوصية خبرتهم وضروراتهم الحتمية. وفي أحيان أخرى، يُطالبون بالتأكيد على هذه الهوية لإعاقة اندماجهم الكامل لمختلف التصورات. ومن نافلة القول إن هذا يصنع إشكاليات للفلسطيني ويربك توفيقه بين هوياته وعيشه أقرب إلى مواطن طبيعي منتمٍ يقدم ما عليه ويتلقى ما له.
وحتى في الغرب، الأكثر إعلاناً للمساواتية للجميع (مهما كان ذلك غير دقيق في الممارسة)، يختار معظم الفلسطينيين أيضاً إبراز هويتهم ولا يستجيبون لإغراء تناسيها. وحيثما ينافسون للحصول على مراكز مؤثرة، فإنهم يستثمرونها لعرض سردهم الوطني. ويبرز ذلك بشكل خاص في مناطق الأكاديميا والفكر – والسياسة- إلى جانب تنظيم الأحداث المتنوعة والمسيرات على المستوى الشعبي لمناصرة القضية الوطنية.
لا توجد حلول لإشكالية "هويات” الفلسطيني – إلا بقيام وطن فلسطيني حرُّ يتيح خيار العودة إليه، عندئذٍ ستصبح الهوية الوطنية، كمسألة وجود، مؤمنة ولا يعود حفظها نضالاً وفرض عَين لا يمكن التهرب منه. وحتى ذلك الحين، سيعيش الفلسطينيون مع خبرتهم المضنية مع الهوية، تحت الاحتلال أو في المنافي.