اكتئاب ما بعد الولادة .. قاتل صامت في العالم العربي

أخبار البلد -

"خوف وقلق وكآبة لا يبددهم شيء" هكذا وصفت سلمى العالم، حياتها اليومية بعد أن وضعت طفلتها الأولى  - قبل 9 شهور.

لم يكن هذا ما كانت تتوقعه سلمى، بحسب ما ذكرته ، فالدراما والإعلانات وأحاديث المقربين صورت لها حياتها مع طفلتها بالحياة المليئة بالسعادة والضحك طوال الوقت.

لكن سلمى أصيبت بـ"اكتئاب ما بعد الولادة" وهي حالة شائعة تعانيها ملايين النساء حول العالم، وغالبا ما تهمل النساء في العالم العربي علاجها.

وتقول سلمى البالغة من العمر 29 عاما " كان حملي صعبا وخطيرا، واضطررت للبقاء في السرير دون حركة لأكثر من شهرين متواصلين بعد أن كنت على وشك الإجهاض في الشهر السادس، وهي التجربة التي لن تُمحى من ذاكرتي أبدا".

بحسب سلمى، التي عانت من الاكتئاب خلال فترة الحمل وبعد الولادة، رحلة الحمل جعلتها تشعر بالـعجز وأنني لن أستطيع ممارسة حياتي الطبيعية مرة أخرى".

قاطعت لينا حديثنا بضحكاتها ولعبها، لكن بعد مهمة وضعها في سريرها أكملت سلمى حديثها عن تلك الفترة الصعبة "كان عندي رعب وخوف مبالغ فيه على ابنتي، أن يحدث لها أي شيء، أن يحملها أحد بطريقة خاطئة، كذلك انتشار فيروس كورونا زاد مخاوفي، وكنت أخاف أن أكون السبب في إيذائها".

كيف نواجه المرض؟

البروفيسورة جوان بلاك رئيسة كلية الطب النفسي المرتبط بالولادة في الكلية الملكية للصحة النفسية ببريطانيا، قالت إن ما شعرت به سلمى هو أمر شائع بين النساء المصابات بـ "اكتئاب ما بعد الولادة".

وغالبا ما تظهر الأعراض في "شعور باللامبالاة، فضلا عن الحزن والرغبة في البكاء طوال الوقت، والإحباط من عدم شعورهن بحب جارف لأطفالهن كما توقعن خلال الساعات الأولى لميلاده ويصاحب ذلك شعور بالخزي والتقصير وانعدام القيمة".

لكن أكثر ما يثير قلق البروفيسورة بلاك، بحسب تصريحها ، "هو ألا تقدر النساء على التحدث عن الأمر مع شخص يثقن به سواء من الأسرة أو مسؤولي الرعاية الطبية، ما يجعل المشاعر السلبية تتطور لدى النساء حتى تصل إلى التفكير في الانتحار".

وبحسب المتخصصين، يساعد تشخيص "اكتئاب ما بعد الولادة " وتوفير الدعم المطلوب للنساء المصابات بهذا المرض في مراحله الأولى على اختصار فترة الإصابة به وتقليل حدة المرض.

ويعالج اكتئاب ما بعد الولادة عبر عقاقير مضادة للاكتئاب وفي كثير من الأحيان لا يتطلب الأمر أكثر من مساعدة نفسية وسلوكية من جانب متخصصين، كما أوضحت بلاك.

إحصاءات عالمية

تقول سلمى إنه في تلك الفترة كانت تسيطر على عقلها اللاواعي أفكار تتعلق بالتخلص من ابنتها " كنت أفكر أثناء إرضاعي لها أنني سألقيها من النافذة أو الشرفة، لكنى كنت أخشى أن أحكي لأي أحد هذه المشاعر حتى لا يعتبرونني مجنونة، وغير مقدرة لقيمة النعمة".

وبحسب منظمة الصحة العالمية تعاني نحو 10 % من النساء حول العالم من الاكتئاب أثناء فترة الحمل، لتصل النسبة إلى 13 % بعد الولادة، وفي الدول النامية ترتفع النسب إلى 16 % خلال فترة الحمل و تصل إلى 20 % بعد الولادة.

وتؤكد وفاء الصاوي المسؤولة التقنية بوحدة الصحة النفسية في مكتب منظمة الصحة العالمية الإقليمي بالشرق الأوسط أن النسب العالمية والعربية بشأن الإصابة باكتئاب ما بعد الولادة تتقارب، لكن النساء العربيات لا يطلبن المساعدة بسبب "الوصم المحيط بالإفصاح عن المشكلات النفسية، الأمر الذي يمنع النساء أو يقلل من احتمالية طلبهن للمساعدة، كذلك العادات والتقاليد المتوارثة التي تجعل الألم النفسي في ذيل قائمة اهتمامات النساء في تلك المرحلة، وكذلك انتشار فيروس كورونا الذي أضاف مزيدا من المخاوف بين النساء على أطفالهن".

وبهدف نشر الوعي بين النساء ومقدمي الخدمات الطبية في العالم العربي طرحت منظمة الصحة العالمية على موقعها الإليكتروني كتيب "التفكير الصحي" باللغة الإنجليزية والعربية. ويقدم الكتيب إرشادات للعلاج النفسي و السلوكي الذي تحتاجه النساء خصوصا في مرحلة ما بعد الولادة.

"جبل من النصائح"

ولم تتمكن أسرة سلمى من تقديم النصائح المناسبة لها خلال تلك الفترة التي وصفتها بالصعبة "لعدم درايتهم بحقيقة ما كنت أمر به، كنت أشعر أن جميع من حولي يصدرون أحكاما ويقدمون نصائح حول العناية بالطفل في وقت كنت أوهن فيه من أن أحتمل كل هذه الجبال من النصائح".

النصائح التي لا تراعي الحالة النفسية السيئة للأم كانت تشكل عبئا على أم اخرى هي إيمان خلال فترة اكتئاب ما بعد الولادة والتي استمرت نحو 7 أشهر ونصف.

وتقول إيمان البالغة من العمر 30 عاما "كنت أسمع 100 مرة في اليوم، نصائح حول إطعام الطفل، لكنني في الواقع كنت مكتئبة وأبكي طوال الوقت، وأشعر بالألم الشديد بعد الخضوع لولادة قيصرية، ولا أستطيع النوم بسبب بكاء الطفل طوال الوقت، كنت أشعر أني أم فاشلة وغير قادرة على رعاية الطفل بالطريقة التي تمنيتها".

إحساس الألم بسبب جرح الولادة، وإصرار الآخرين على تقديم نصائح لها كانا يشكلان ضغطا كبيرا على إيمان لدرجة تقول إنها حرمتها من الإحساس بالسعادة بعد ميلاد يحيى، ابنها الأول.

تضيف إيمان من مصر "تمنيت الموت، هذه ليست حياتي، لا أستطيع القيام بأي شيء، أنا في واقع جديد مخيف ولا أستطيع التعامل معه أو تقبله".

و في حالات نادرة ، قد تقدم الأم المكتئبة على إيذاء رضيعها، ففي يونيو / تموز الماضي، قتلت أم حديثة الإنجاب في محافظة الشرقية شرق العاصمة المصرية القاهرة، رضيعها وعمره ثلاثة أشهر بـ"ريموت" التليفزيون، دون سبب مفهوم.

وأشارت التحقيقات وقتها أنه من المحتمل أن تكون الأم مصابة باكتئاب ما بعد الولادة.

وهذه ليست الحالة الأولى من نوعها، فهناك العديد من الحالات المسجلة لأمهات قتلن أطفالهن الرضع، بل وقتلن أنفسهن بسبب اكتئاب ما بعد الولادة.

"جسمي لم يكن هكذا"

شعور الحزن أحيانا يكون بسبب القلق الزائد عن الطفل و أحيانا يكون بسبب إحساس أن الحياة تغيرت بلا رجعة.

مثل سلمى وإيمان، لم تنس منال من الأردن الصعوبات التي كابدتها خلال تجربة الولادة.

وتقول منال البالغة من العمر 32 عاما " لم أكن قادرة على حمل ابنتي، كنت أطمئن عليها من بعيد، وفقدت شهيتي للطعام، كنت أيضا أريد البقاء وحيدة وعدم رؤية أي شخص لأطول فترة ممكنة، لم أكن قادرة على التوقف عن البكاء".

كانت تعاني منال من اكتئاب قبل فترة حملها، وبحسب الكلية الملكية للأطباء النفسيين في بريطانيا فإن النساء اللاتي لديهن تاريخ من الصعوبات النفسية أو لدى أسرهن تاريخ من الإصابة باكتئاب ما بعد الولادة، هن الأكثر عرضة للإصابة به.

وهو ما كان يجب تنبيه منال لاحتمال حدوثه خلال فترة حملها، حسب البروفيسورة جوان بلاك، لكنه لم يحدث.

وتضيف منال في تلك المرحلة كانت لدى اسئلة كثيرة "أين أنا من كل هذا الزحام المحيط بي، كيف تغير جسمي بهذا الشكل، ماذا حدث لي، كنت لا أنام وأحلم طوال الوقت أني ابنتي سقطت من سريرها أو اختنقت أثناء إرضاعها".

وتشير دراسات للكلية الملكية للأطباء النفسيين في بريطانيا إلى أن الأوضاع النفسية السيئة للأمهات قد تؤثر على النمو العقلي والبدني والنفسي لأطفالهن.

"تحررت من الخوف"

أيضا داليا من الأردن ظلت تعانى في صمت دون اللجوء لطبيب لعام كامل بعد ولادة ابنتها أيلا. ورغم انها أجلت تجربة الإنجاب لثلاث سنوات لتكون على أتم الاستعداد لتلك الخطوة إلا أنها وقعت فريسة الاكتئاب أيضا.

وقد خلصت دراسة لجامعة أكسفورد في عام 2018 إلى أن النساء اللاتي تستمر معاناتهن من اكتئاب ما بعد الولادة لعدة شهور يتعرضن لخطر الإصابة باكتئاب يلازمهن لسنوات.

وتقول داليا "كنت أبكي بلا سبب طوال الوقت، ولا أستطيع الشكوى فلا أحد ممن حولي يفهم ما أمر به، جسمي تغير و كل شيء حولي تغير حتى علاقتي بزوجي تغيرت، الأعباء زادت فجأة".

وتضيف "بعد 3 شهور عندما عدت للعمل، شعرت أنني تحررت وعدت داليا التي أعرفها، لكن كنت مع اقتراب موعد عودتي للمنزل أعود للإحساس بالخوف والقلق والتوتر".

بحسب النساء الأربع سلمى ومنال وإيمان وداليا تجربة الولادة كانت الأروع حيث غيرت حياتهن للأبد لكنها لم تكن أبدا بالتجربة السهلة والممتعة منذ لحظتها الأولى كما يحدث في الدراما وإنما ظهرت السعادة فيها بعد شهور بالتدريج وبمساعدة المحيطين.