تراب ضانا أغلى من ذهب الأرض
اخبار البلد -
من الطبيعي أن نخاف من الفشل. لكن ما يدعو إلى الدهشة أن يتصرّف البعض وكأنهم يخافون من النجاح. ويزداد الاستغراب حين يتعلق الأمر بنجاحات نادرة في مجالات البيئة، كان من المأمول البناء عليها لتحقيق إنجازات أخرى مطلوبة بلا تأخير.
قبل أسابيع قليلة، اختارت مجلة «تايم» العريقة محمية ضانا في الأردن بين أعظم 100 موقع في العالم تستحق الزيارة سنة 2021. وكانت منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونيسكو) أدرجت ضانا في لائحة «الإنسان والمحيط الحيوي»، التي تضم أهم المناطق المحمية حول العالم. هكذا اكتسبت المحمية، التي تتميّز بتنوع طبيعي وبيولوجي نادر، شهرة واسعة، وأضحت مقصداً مهمّاً للسياحة البيئية.
بعد أقلّ من شهر على اختيار محمية ضانا بين أعظم 100 وجهة للزيارة في العالم، أصدرت الحكومة الأردنية قراراً بالعمل سريعاً لتعديل حدود المحمية، تمهيداً لاقتطاع جزء منها، بهدف مباشرة أعمال التنقيب لاستخراج النحاس. ورغم أنه ليس من دليل على وجود النحاس بكميات تجارية، فليس هناك ما يبرر انتهاك حرمة موقع مهم كهذا تحت أي حجة. وإذا كان هناك مما قد يسمح بإحداث تخريب محدود في الطبيعة لخلق مصادر جديدة للدخل وتحسين معيشة الناس، فهذا لا يجوز إذا كان التخريب دائماً وغير قابل للإصلاح، كما في محمية ذات خصائص نادرة مثل ضانا.
أعادنا هذا الخبر الصادم إلى عام 2019. حين اقتحمت أخبار الطاقة المتجددة في الأردن منتديات الطاقة العالمية، كقصة نجاح باهرة. فقد أدّت السياسات الحديثة التي اعتمدتها الحكومة عام 2012 إلى تقدّم سريع في قطاع الطاقة المتجددة، التي وصلت نسبة مساهمتها في إنتاج الكهرباء إلى نحو 20 في المائة، وكان من المتوقّع أن تصل إلى 25 في المائة سنة 2020 و50 في المائة سنة 2030. فقد اجتذبت السياسات الملائمة التي اعتمدتها الحكومة استثمارات خارجية ومحلية لإنتاج الكهرباء من الشمس والرياح، وتدفّقت الاستثمارات من القطاع الخاص وصناديق التنمية ومؤسسات التمويل الدولية. وتمثّل الشمس والرياح المصدر الرخيص الوحيد للطاقة في الأردن، الذي يفتقر إلى موارد محلية من النفط والغاز والفحم الحجري. وكان قد ثبت سابقاً عدم وجود اليورانيوم بنوعية صالحة للتخصيب، كما كان يروِّج دعاة اعتماد الطاقة النووية لإنتاج الكهرباء. وعدا عن الاستهلاك المحلي، قلنا يومها إنه يمكن للتوسّع في مشاريع الطاقة المتجددة إفساح المجال للأردن لتصدير الكهرباء إلى الدول المجاورة التي تفتقر إليها، خاصة العراق وسوريا ولبنان. وتجدر الإشارة إلى أن إنتاج الكهرباء من الشمس والرياح اليوم أرخص من أي مصدر آخر للطاقة.
في ذلك الوقت بالذات، حين كانت الطاقة المتجددة في الأردن على طريق الوصول إلى القمة، قررت الحكومة فجأة إيقاف منح تراخيص جديدة لمشروعات إنتاج الكهرباء من الشمس والرياح. وفي حين كان السبب المعلن عدم قدرة شبكة التوزيع على استيعاب كمية الإنتاج المتزايدة، استمرّ منذ ذلك الوقت ازدياد إنتاج الكهرباء في محطات تعمل على الغاز المستورد.
قبل ذلك بسنة واحدة، عام 2018. كانت حصّة السيارات الكهربائية من مجموع السيارات الجديدة المبيعة في الأردن وصلت إلى نسبة هي بين الأعلى في العالم. وترافق هذا مع تسهيلات ضريبية شملت إعفاءات من رسوم الاستيراد والتشغيل. وقد شجَّع هذا دولاً أخرى في المنطقة على اعتماد إجراءات مماثلة لتوسيع حصّة السيارات الكهربائية، وفي طليعتها الإمارات العربية المتحدة، التي لا تفتقر إلى البترول، بل اعتبرت أن استخدام السيارات الكهربائية يساهم في تخفيف تلوُّث الهواء.
في تلك السنة بالذات، بينما كان برنامج إدخال السيارات الكهربائية إلى طرقات الأردن في قمة النجاح، قررت الحكومة إلغاء معظم الإعفاءات والتسهيلات الضريبية عليها. وبينما كانت الحِجّة حاجة الحكومة إلى مداخيل أكبر، رأى آخرون أن التحوُّل إلى السيارات الكهربائية، عدا عن فوائده البيئية، يؤدي إلى استخدام فائض الإنتاج المحلي الرخيص من الكهرباء ذات المصادر المتجددة، وتوفير البترول المستورد.
إذا كان الرجوع عن قرارات وقف تراخيص مشاريع الطاقة المتجددة وإلغاء الإعفاءات على السيارات الكهربائية ممكناً، وتصحيح الضرر متاحاً في المستقبل، فهذا لا ينطبق على محمية ضانا. إذ من المعروف أن بعض الأنظمة الطبيعية المتفردة لا يمكن استعادتها بعد إبادتها. وهذا يعني أن الحفاظ على طبيعة هذه المحمية يتطلّب الرجوع سريعاً عن القرار الجائر بتقطيع أوصالها.
ضانا هي الكبرى بين 9 محميات تديرها، بتكليف من الحكومة الأردنية، «الجمعية الملكية لحماية الطبيعة». وتحتل المحميات الطبيعية 4 في المائة من مساحة الأردن، مقارنة مع نسبة عالمية تصل إلى 10 في المائة. ويطالب الاتحاد الدولي لصون الطبيعة بتوسيع رقعة المناطق المحمية إلى 30 في المائة من أراضي العالم بحلول سنة 2030. لذا، فالمطلوب توسيع رقعة المحميات لا تضييقها. وهذا ما تعمل عليه دول في العالم والمنطقة، ومنها السعودية، التي التزمت بزيادة رقعة المناطق المحمية فيها من نحو 10 في المائة اليوم إلى 30 في المائة.
غير أن الأردن بلغ مراحل متقدمة في الإدارة الكفؤة لمحمياته، التي نجحت في إدماج المجتمعات المحلية، وأطلقت برامج اجتماعية واقتصادية فيها، كما طوّرت أشكالاً متنوعة من النشاطات التي تستقطب السياحة المحلية والعالمية. أما محمية ضانا بالذات فتحتل مساحة 300 كيلومتر مربع، وتتميَّز بطبيعة خاصة، تمتد من الأودية وسهول وادي عربة الصحراوية المنخفضة، إلى جبال يبلغ ارتفاعها 1500 متر عن سطح البحر. وهي من أكثر المناطق تنوعاً في الأردن بالأنظمة البيئية والأنماط النباتية والحيوانية، وتُعَدُّ بين الأغنى بالتنوع النباتي حول العالم، إذ تضمّ أكثر من 830 نوعاً نباتيَّاً، بعضها لا يوجد إلّا في نطاقها. يضاف إلى هذا أنها موطن لعدد كبير من الطيور والثدييات المهددة بالانقراض عالميّاً. وهذا يُعتبر إرثاً وطنياً لا يجوز التلاعب به، ولا يمكن إصلاحه بعد حصول الضرر.
لفتني تصريح لأحد الوزراء طمأن فيه المعترضين أنه سيتم التعويض عن أي مساحة تُقتطع من محمية ضانا بأرض بديلة في منطقة أخرى بالمساحة نفسها. وهذا ذكَّرني بتعليق مسؤول كبير قبل 25 سنة، حين طالبناه بضرورة إجراء تقييم للأثر البيئي قبل ردم البحر لتوسيع النطاق العقاري، فقال: «أين المشكلة؟ نردم هنا فتتحرك المياه بضعة مئات من الأمتار إلى هناك». لكنه اقتنع حين شرحنا له أن للطبيعة الحية طرائقها الخاصة، وأن الردم في بقعة محددة قد يؤدي إلى إبادة أنظمة طبيعية نادرة لا يمكن تعويضها.
فنحن لا نتحدّث عن عقار للاستثمار التجاري، بل عن تراث طبيعي وطني لا يمكن تعويضه ولا يقدَّر بثمن، حتى لو كان هذا الثمن كلّ ذهب الأرض، وليس نحاسها فقط.
قبل أسابيع قليلة، اختارت مجلة «تايم» العريقة محمية ضانا في الأردن بين أعظم 100 موقع في العالم تستحق الزيارة سنة 2021. وكانت منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونيسكو) أدرجت ضانا في لائحة «الإنسان والمحيط الحيوي»، التي تضم أهم المناطق المحمية حول العالم. هكذا اكتسبت المحمية، التي تتميّز بتنوع طبيعي وبيولوجي نادر، شهرة واسعة، وأضحت مقصداً مهمّاً للسياحة البيئية.
بعد أقلّ من شهر على اختيار محمية ضانا بين أعظم 100 وجهة للزيارة في العالم، أصدرت الحكومة الأردنية قراراً بالعمل سريعاً لتعديل حدود المحمية، تمهيداً لاقتطاع جزء منها، بهدف مباشرة أعمال التنقيب لاستخراج النحاس. ورغم أنه ليس من دليل على وجود النحاس بكميات تجارية، فليس هناك ما يبرر انتهاك حرمة موقع مهم كهذا تحت أي حجة. وإذا كان هناك مما قد يسمح بإحداث تخريب محدود في الطبيعة لخلق مصادر جديدة للدخل وتحسين معيشة الناس، فهذا لا يجوز إذا كان التخريب دائماً وغير قابل للإصلاح، كما في محمية ذات خصائص نادرة مثل ضانا.
أعادنا هذا الخبر الصادم إلى عام 2019. حين اقتحمت أخبار الطاقة المتجددة في الأردن منتديات الطاقة العالمية، كقصة نجاح باهرة. فقد أدّت السياسات الحديثة التي اعتمدتها الحكومة عام 2012 إلى تقدّم سريع في قطاع الطاقة المتجددة، التي وصلت نسبة مساهمتها في إنتاج الكهرباء إلى نحو 20 في المائة، وكان من المتوقّع أن تصل إلى 25 في المائة سنة 2020 و50 في المائة سنة 2030. فقد اجتذبت السياسات الملائمة التي اعتمدتها الحكومة استثمارات خارجية ومحلية لإنتاج الكهرباء من الشمس والرياح، وتدفّقت الاستثمارات من القطاع الخاص وصناديق التنمية ومؤسسات التمويل الدولية. وتمثّل الشمس والرياح المصدر الرخيص الوحيد للطاقة في الأردن، الذي يفتقر إلى موارد محلية من النفط والغاز والفحم الحجري. وكان قد ثبت سابقاً عدم وجود اليورانيوم بنوعية صالحة للتخصيب، كما كان يروِّج دعاة اعتماد الطاقة النووية لإنتاج الكهرباء. وعدا عن الاستهلاك المحلي، قلنا يومها إنه يمكن للتوسّع في مشاريع الطاقة المتجددة إفساح المجال للأردن لتصدير الكهرباء إلى الدول المجاورة التي تفتقر إليها، خاصة العراق وسوريا ولبنان. وتجدر الإشارة إلى أن إنتاج الكهرباء من الشمس والرياح اليوم أرخص من أي مصدر آخر للطاقة.
في ذلك الوقت بالذات، حين كانت الطاقة المتجددة في الأردن على طريق الوصول إلى القمة، قررت الحكومة فجأة إيقاف منح تراخيص جديدة لمشروعات إنتاج الكهرباء من الشمس والرياح. وفي حين كان السبب المعلن عدم قدرة شبكة التوزيع على استيعاب كمية الإنتاج المتزايدة، استمرّ منذ ذلك الوقت ازدياد إنتاج الكهرباء في محطات تعمل على الغاز المستورد.
قبل ذلك بسنة واحدة، عام 2018. كانت حصّة السيارات الكهربائية من مجموع السيارات الجديدة المبيعة في الأردن وصلت إلى نسبة هي بين الأعلى في العالم. وترافق هذا مع تسهيلات ضريبية شملت إعفاءات من رسوم الاستيراد والتشغيل. وقد شجَّع هذا دولاً أخرى في المنطقة على اعتماد إجراءات مماثلة لتوسيع حصّة السيارات الكهربائية، وفي طليعتها الإمارات العربية المتحدة، التي لا تفتقر إلى البترول، بل اعتبرت أن استخدام السيارات الكهربائية يساهم في تخفيف تلوُّث الهواء.
إذا كان الرجوع عن قرارات وقف تراخيص مشاريع الطاقة المتجددة وإلغاء الإعفاءات على السيارات الكهربائية ممكناً، وتصحيح الضرر متاحاً في المستقبل، فهذا لا ينطبق على محمية ضانا. إذ من المعروف أن بعض الأنظمة الطبيعية المتفردة لا يمكن استعادتها بعد إبادتها. وهذا يعني أن الحفاظ على طبيعة هذه المحمية يتطلّب الرجوع سريعاً عن القرار الجائر بتقطيع أوصالها.
ضانا هي الكبرى بين 9 محميات تديرها، بتكليف من الحكومة الأردنية، «الجمعية الملكية لحماية الطبيعة». وتحتل المحميات الطبيعية 4 في المائة من مساحة الأردن، مقارنة مع نسبة عالمية تصل إلى 10 في المائة. ويطالب الاتحاد الدولي لصون الطبيعة بتوسيع رقعة المناطق المحمية إلى 30 في المائة من أراضي العالم بحلول سنة 2030. لذا، فالمطلوب توسيع رقعة المحميات لا تضييقها. وهذا ما تعمل عليه دول في العالم والمنطقة، ومنها السعودية، التي التزمت بزيادة رقعة المناطق المحمية فيها من نحو 10 في المائة اليوم إلى 30 في المائة.
غير أن الأردن بلغ مراحل متقدمة في الإدارة الكفؤة لمحمياته، التي نجحت في إدماج المجتمعات المحلية، وأطلقت برامج اجتماعية واقتصادية فيها، كما طوّرت أشكالاً متنوعة من النشاطات التي تستقطب السياحة المحلية والعالمية. أما محمية ضانا بالذات فتحتل مساحة 300 كيلومتر مربع، وتتميَّز بطبيعة خاصة، تمتد من الأودية وسهول وادي عربة الصحراوية المنخفضة، إلى جبال يبلغ ارتفاعها 1500 متر عن سطح البحر. وهي من أكثر المناطق تنوعاً في الأردن بالأنظمة البيئية والأنماط النباتية والحيوانية، وتُعَدُّ بين الأغنى بالتنوع النباتي حول العالم، إذ تضمّ أكثر من 830 نوعاً نباتيَّاً، بعضها لا يوجد إلّا في نطاقها. يضاف إلى هذا أنها موطن لعدد كبير من الطيور والثدييات المهددة بالانقراض عالميّاً. وهذا يُعتبر إرثاً وطنياً لا يجوز التلاعب به، ولا يمكن إصلاحه بعد حصول الضرر.
لفتني تصريح لأحد الوزراء طمأن فيه المعترضين أنه سيتم التعويض عن أي مساحة تُقتطع من محمية ضانا بأرض بديلة في منطقة أخرى بالمساحة نفسها. وهذا ذكَّرني بتعليق مسؤول كبير قبل 25 سنة، حين طالبناه بضرورة إجراء تقييم للأثر البيئي قبل ردم البحر لتوسيع النطاق العقاري، فقال: «أين المشكلة؟ نردم هنا فتتحرك المياه بضعة مئات من الأمتار إلى هناك». لكنه اقتنع حين شرحنا له أن للطبيعة الحية طرائقها الخاصة، وأن الردم في بقعة محددة قد يؤدي إلى إبادة أنظمة طبيعية نادرة لا يمكن تعويضها.
فنحن لا نتحدّث عن عقار للاستثمار التجاري، بل عن تراث طبيعي وطني لا يمكن تعويضه ولا يقدَّر بثمن، حتى لو كان هذا الثمن كلّ ذهب الأرض، وليس نحاسها فقط.