السوشال ميديا: “السفسطة” والهويات الزائفة
اخبار البلد -
نعيش اليوم في عالم مفتوح، تفرض السرعة إيقاعها فيه على كل شيء. لكن هذه السرعة لا تتحرى الدقة، وأيضا يتوارى فيها المتخصصون، لتكون الساحة مفتوحة للجميع
اليوم يدور أغلب النقاش في الفضاء الإلكتروني، أو ما اصطلح على تسميته مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تمتلك من العيوب أكثر بكثير مما تمتلك من المحاسن، وأولى هذه العيوب هو أنه فضاء ليس منتخبا، بل يستطيع أي شخص المشاركة فيه، وإبداء الرأي في أي قضية كانت، حتى لو لم يكن يفهم فيها أي شيء.
هذا الأمر يؤدي إلى تغييب التخصص والعمق في أي نقاش كان، بل يتحول الجدل في كثير من الأحيان إلى «حوار طرشان»، يريد كل طرف أن يفرض خلاله وجهة نظره على الطرف الآخر، أو إلى مجرد «سفسطة» وإظهار للذات.
الجانب الآخر من المشكلة، أن هذا النوع من النقاش يتبع للحدث، ويعتمد على «نظرية الفقاعة»، فغالبية الموضوعات تثار لفترة زمنية محدودة، وسرعان ما تنتهي بالسرعة نفسها التي بدأت بها. لكن هذا الأمد اليسير يمكن أن يؤدي إلى أضرار عديدة، يدفع المجتمع كلفتها في كثير من الأحيان.
في مواقع التواصل الاجتماعي، هناك أيضا ما يمكن أن نسميه «انهيار السياق» في معظم نقاشاتنا. ومعناه طريقة فهم المتلقي لما يدرج من تعليقات ومساهمات، وليس معناها الحقيقي الذي كتبت لأجله، بسبب أن كثيرًا من «الصداقات» تنشأ عبر الفضاء الإلكتروني، ما يغيّب الشخصية الحقيقية للكاتب من ذهن المتلقي، وبالتالي تغييب المعنى المراد إيصاله من الكتابة المدرجة. في هذا الشأن، مثلا، يستطيع المعلق الأول على أي إدراج أن يأخذ المعنى بعيدا إلى خلاف ما كُتب، وبذلك ينقل السياق من معنى إلى آخر، فيأتي المعلقون من بعده ليناقشوا فهمه هو وقصده في التفسير، لا فهم الإدراج وقصده.
في الجانب السلبي، أيضا، لا يمكن تغييب وجود «الذباب الإلكتروني»، والذي تستثمر فيه جهات عديدة لتنفيذ أجنداتها، والترويج لروايتها، أو، أحيانا، لجعل المشهد ضبابيا، ما ينتج «جدلا موجها» ليس له أي قيمة في كثير من الأحيان سوى أن يبعد الاهتمام بقضايا جوهرية.
جميع ما سبق، أفرز مجموعة من الظواهر التي أثرت كثيرا في بنية المجتمع الفكرية، والذي يظن جهلا أنه يمارس حرية كبيرة في الخوض بمثل هذه النقاشات، أو أنه ينتج معرفة من خلال الجدل الدائر، وهو على عكس ذلك تماما، إذ يمنح أرضا خصبة لشيوع التخوين والتكفير والاتهامية بأصنافها، إضافة إلى الإقصاء، وتسويق خطاب الكراهية، وتكوين الاصطفافات المريضة في كثير من الأحيان.
في نقاشات اليوم، يتصدر العوام غير المتخصصين مواقع التواصل الاجتماعي، بينما نشهد صمتا مطبقا للجامعات والمراكز والمؤسسات الثقافية، تاركة المجال لغيرها، وهو أمر لا علاقة له بارتفاع مستوى الحرية، بل يمكن التأشير من خلاله على عكس ذلك تماما، وهو غياب حرية التعبير الحقيقية.
ويبقى سؤال مهم ينبغي طرحه في هذا السياق، وهو كيف ننقل نقاشاتنا إلى مستوى أكثر فاعلية وإنتاجية، خصوصا أن كثيرا من رواد مواقع التواصل الاجتماعي، وبحكم الممارسة المكثفة، تكونت لديهم هويات رقمية شبه راسخة، غالبا لا تشبه هويتهم الحقيقية، يمارسون من خلالها «خطابا فوقيا»، رغم أنهم غير متخصصين في أي شيء. لقد أسهمت المعلومات الكثيرة المتدفقة من السوشال ميديا في تكوين هوية جديدة للأفراد، هي هوية رقمية منفصلة أو منفصمة عن الواقع الحقيقي الذي يدورون في فضائه، لذلك غالبا ما يلجأون إلى تقديم أنفسهم بطريقة مغايرة للواقع، خصوصا ما يتعلق بالفضائل والرذائل، سواء أكانت اجتماعية أم فكرية.
هذا الأمر بالذات، ربما يطرح إشكالية حقيقية في سياق علم الاجتماع، وهي أن تكون هويتنا الثقافية مهددة بالفعل من خلال ما تفرزه مواقع التواصل الاجتماعي اليوم، وبالتالي تمييع هذه الهوية التي لا تجد أي جهة للدفاع عنها، أو جرها مرة أخرى إلى مسارها الطبيعي.
مواقع التواصل الاجتماعي تسهم بفاعلية في بناء شكل «شبه معولم»، إلا أنها، على المستوى الفكري والثقافي، عززت من الهويات الفرعية الضيقة والاحتماء بها. لكن بالتأكيد الحل لمثل هذه المعضلة، هو بالدراسات الجادة، والتثقيف بخطورة «الهوية الرقمية الزائفة»، لا بما تقترحه الحكومة من تضييق على الحريات ومحاصرتها.