طالبان بين ثقافتين.. الإسلامية والمدنية

أخبار البلد-

 
قواعد اللعبة السياسية لدى حركة طالبان ما زالت غامضة حتى اللحظة, والتحليلات الصحفية حول هذه اللعبة متباينة إلى حد التضارب, ويبدو أن الصندوق الأسود المتعلق بمراحل تطورات الوضع في أفغانستان اليوم بيد القطريين أو في متناول يدها, وعلينا التيقن التام أن المشروع الأمريكي في أفغانستان لم ينتهي بعد وإنما تبدّلت بعض أولويات أوراقه, والأهم من كل هذا وذاك هو أن حركة طالبان (القبلية) اليوم تقف بين ثقافتين.. ثقافة إسلامية وثقافة مدنية, ثقافة إسلامية متأصلة لديها يصعب التخلي عنها بالكامل, وثقافة مدنية جديدة عليها لا بد من التعامل معها في المستقبل, والسؤال الجوهري هنا هل لدى حركة طالبان (القبلية) زعامات مؤهلة سياسياً لإدارة مثل هذه المشاهد؟

حركة طالبان اليوم تمثل حالة جديدة في المنطقة, والذين سيتعاملون مع مثل هذه الحالة هم خصوم السياسة وأقطابها في العالم كل حسب مصلحته, ومن أبرز هؤلاء الخصوم: أمريكا وروسيا, ثم الصين مجدداً, فأمريكا تعمل جادة على محاربة الإرهاب بجميع الوسائل في جميع أنحاء العالم, وروسيا تسعى دوماً للهيمنة على مشاريع إعادة بناء الدول بعد نشوب الحروب والكوارث فيها, والصين تُخطط جادة للسيطرة على اقتصاد العالم واستثمار الموارد الطبيعية لبعض الدول المتأرجحة.

اعتقد هنا جازماً أن الصندوق الأسود لحركة طالبان يحمل في ثناياه اليوم ثلاثة ملفات تخص أفغانستان بشكل خاص, والمنطقة بشكل ككل عام, وأول هذه الملفات ملف محاربة الإرهاب والتطرف, وثانيها ملف إعادة البناء, وثالثها ملف استثمار الموارد الطبيعية, هذه الملفات الثلاثة ستتعاطى معها حركة طالبان مع كل من أمريكا وروسيا والصين في ضوء الثقافة الإسلامية المتأصلة في الحركة, والثقافة المدنية التي ستُفرض على هذه الحركة من جديد.

قواعد اللعبة السياسية في الطرف الأخر من العالم (قارة آسيا) تتمحور حول تجفيف منابع الإرهاب من جهة, والسيطرة على الموارد الطبيعية من جهة أخرى, وقد تأخر تنفيذ هذه القواعد شيء من الوقت بسبب سياسة ترامب الرعناء عندما كان على رأس الحكم والرامية إلى تجميد ملف حركة طالبان حتى إشعار آخر وتحريك ملف قضية الشرق الاوسط (فلسطين) من خلال ما يسمى بصفقة القرن, وبسبب تأخر اكتشاف لقاحات فيروس جائحة كورونا وما صاحب ذلك من انتقادات حادة لمنظمة الصحة العالمية على تأخرها في التعامل مع ملف فيروس كورونا الذي بدأ من الصين.

مكوّن حركة طالبان بأيدولوجيته القبلية الإسلامية, لا يمكن لهذا المكوّن أن يقفز عن المكوّنات الأخرى في الدولة الأفغانية والتي لديها شهيّة جامحة أتجاه الدولة المدنية, ولكي تصمد هذه الحركة أمام جميع التحديات الداخلية لا بد لها من أن تكسب جهة على حساب جهات اخرى, الأمر الذي يدعو الحركة إلى أن تدرك أي من هذه الجهات هي الأقوى, ومن ثم بناء شراكات أيدولوجية معها, كيف لا والنسيج الأفغاني نسيج مركب له امتدادات قبلية واسعة مع الدول الحدودية المجاورة والتي تنتهي حكماً بحرف النون الجغرافي كإيران والصين وباكستان وأزباكستان وطاجيكستان وتركمنستان.

العالم العربي اليوم يلتقي مع حركة طالبان في ثلاثة مجالات: المجال الديني حيث أن الحركة سنية المذهب, والمجال القبلي حيث أن أساس تجمع الحركة قبلي بمعنى الكلمة, والمجال الأجنبي وتحدياته, حيث أن ثقافة الحركة التقليدية قبل وبعد تأسيسها عام 1996م تعاملت كمكوّن أفغاني مع ثلاثة إمبراطوريات عملاقة هي بريطانيا عام 1919م, وروسيا عام 1989م, وامريكا مؤخراً عام 2001م, وخرج الأفغان من هذه التحديات بطريقة الرابح/ الخاسر.

اليوم الصين تدفع بحركة طالبان لتكون النسخة الأول لدولة القانون, والتي ستقف حجر عثرة أمام دولة القبيلة, كل ذلك من أجل أن لا تصل دولة القبيلة الطالبانية ذات الطابع الإسلامي إلى بعض الأقليات العرقية المسلمة في الصين كـ(الإيغور) في إقليم شينجيانغ الصيني مثلاً, حيث الاضطهاد الديني الذي تمارسه الصين ضد هؤلاء المسلمين, وفي الوقت الذي أخفقت فيه أمريكا من جهة اخرى بالتعامل مع مشروع بوذية فيتنام, وأخفقت أيضاً بالتعامل مع مشروع إسلامية طالبان, فأن هناك اليوم من يسد الفراغ الاخلاقي,..فراغ كلمة السر فيه أن جميع الأنبياء والرسل عليهم من الله الرحمة والسلام, أسسوا قبل كل شيء عبادات تحترم معها الدول من جهة, ومن ثم دول تحترم معها العبادات من جهة اخرى.

في عالمنا العربي ما زلنا نفكك العُقد الأمويّة والعباسيّة والعثمانيّة العالقة.. تلك التي قيّدوا بها عقولنا عقود طويلة وتعثرنا معها في فهم الدين الحنيف فهماً صحيحاً حتى اللحظة, وفي هذا السياق مطلوب منا جميعا قراءة القرآن الكريم قراءة سليمة, ومراجعة السنة النبوية مراجعة صحيحة, وتحييد المشايخ من بيننا الذين بشّروا أنفسهم بالجنة..كي نؤسس من جديد لـ(عبادات تحترم معها الدولة, ودولة تحترم معها العبادات)..كي نحقق قوله تعالى:(كنتم خير أمّة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر).