العرب والأولمبياد - بين ميداليات الذهب والكرامة

أخبار البلد -

 
بعد سبعة عشر يوما من المنافسات الرياضية الممتعة اختتمت الدورة الثانية والثلاثون للألعاب الأولمبية، التي أقيمت في طوكيو هذا العام بدل موعدها الأصلي عام 2020 بسبب جائحة كورونا. شارك في الدورة أحد عشر ألف رياضي ورياضية، تنافسوا في 339 فعالية رياضية، ضمن 33 صنفا من الرياضة

كل فريق يحاول تمثيل بلادة بصورة رائعة، ويعمل على الفوز بواحدة من المراتب الثلاث الأولى، التي يقلد فيها الفائزون بالميداليات الذهبية أو الفضية أو البرونزية. ورغم غياب الجمهور إلا أن الألعاب مرت بسلام، ولم يعكر صفوها أي حادث أو مفاجأة من صنع الإنسان أو الطبيعة. كانت في قمة التنظيم، ولم يكن أجمل من حفل الافتتاح إلا حفل الاختتام الباهر، الذي أغلق حاضنة الشعلة العظيمة بانتظار وصولها إلى باريس عام 2024. وكالعادة جاء ترتيب الولايات المتحدة على رأس قائمة الفائزين بحصولها على أكبر عدد من الميداليات الذهبية، تليها الصين، فالمملكة المتحدة فأستراليا فروسيا. لكن من حيث العدد الإجمالي فقد جاءت روسيا في الموقع الثالث بعد الولايات المتحدة والصين

إنه مهرجان عالمي راقٍ تعرض كل دولة فيه مهارات أبنائها وبناتها في كل أنواع الرياضة، القائمة أصلا على ترويض الجسد وتدريبه وإعداده وصقله، ليكون في أعلى مراحل الجاهزية واللياقة ليدخل ميدان المنافسة بروح رياضية عالية من أجل الفوز. لا نشك للحظة أن الدول ترتقي بأبنائها وبناتها الرياضيين، وترفع رؤوسها عاليا بين الأمم وتتيه فخرا بانتصارات لا أجمل ولا أرقى، بدون أن يلجأ أحد إلى شتيمة أو تعنيف أو مسلك خارج عن المألوف. كم يتمنى الإنسان لو أن سكان هذا العالم لا يتنافسون إلا في الرياضة، أو الفن أو الموسيقى، أو الرسم أو الشعر، ولا يوجد منهزم أو منتصر إلا في الملاعب والمسارح وصالات العرض

حصيلة ميداليات العرب

عاد العرب مجتمعين بثماني عشرة ميدالية، خمس ذهبيات، وست فضيات وسبع برونزيات، إنها حصيلة متواضعة لأمة يزيد سكانها عن 430 مليونا. إن عدد الميداليات الذهبية التي حصدها الرياضيون العرب أقل مما حصلت عليه دولة صغيرة مثل كوبا، التي عادت بسبع ذهبيات لبلد لا يصل عدد سكانه إلى 12 مليونا وكذلك نيوزيلندا التي حصدت سبع ذهبيات، والتي لا يصل عدد سكانها إلى خمسة ملايين، أي ما يعادل سكان حي من أحياء القاهرة أو بغداد أو الدار البيضاء أو الجزائر العاصمة. أليس هذا شيئا محزنا، أن أمة بهذه العراقة والتاريخ والشواطئ والجبال والأنهار، بالإضافة إلى ثروات خيالية، تكون حصيلتها من الميداليات لا تعادل ما جمعته كوبا؟ وقد يثير القارئ مسألة تتعلق بغرابة بعض هذه الألعاب، التي لا علاقة لها بنا وبتراثنا وحضارتنا، ولم نسمع بها أصلا. فما لنا وألعاب الجمباز والدراجات وكرة الماء وقوارب الكاياك وركوب الموج؟ لكن أليست الفروسية وركوب الخيل والسباحة والغوص من صلب تراث العرب؟ ألم يحض الرسول الكريم على تعلم السباحة وركوب الخيل؟ هل من مبرر ألّا يحصد العرب المزيد من الميداليات في المبارزة والمصارعة والملاكمة ورفع الأثقال، والسباحة والقفز العالي وقفز الحواجز، وتنس الطاولة وكرة القدم، وهذه الأنواع من الألعاب نعيشها بشكل يومي؟ أينقص العرب المال أم المرافق أم المدربين؟

لو كان هناك ميداليات تمنح لأكثر الدول فسادا وأكثر الحكام بقاء في السلطة، وأكثر الدول تبديدا للثروات، وأكثر الدول تساهلا مع زواج القاصرات، وأكثر الدول انتهاكا لحقوق العمال الوافدين، وأكثر الدول تهميشا للمرأة، وأكثر الدول تغييرا لدساتيرها لبقاء الحاكم مرة وراء مرة، وأكثر الدول تصديرا للاجئين، وأكثر الدول توريثا للأبناء، إذن لعاد العرب بنصيب الأسد من الميداليات الذهبية والفضية

التعامل مع إسرائيل وكأنها موجودة يعني إعادة برمجة العقل العربي لتقبل دولة مارقة، قامت على أشلاء الشعب الفلسطيني، واحتلال الأراضي العربية

أعظم الميداليات التي عاد بها العرب هي التي حصدها لاعب الجودو وبطل افريقيا الجزائري، فتحي نورين ومدربه عمار بن يخلف، ثم لحق به أخوه لاعب الجودو السوداني محمد عبد الرسول. وفي الوقت نفسه تقريبا انسحب اللاعب اللبناني عبدالله منياتو مباشرة مع مدربه محمد الغربي، بعد أن أوقعته القرعة في مواجهة لاعب إسرائيلي في بلغاريا، ضمن بطولة الفنون القتالية المختلطة، رافضا «الاعتراف» بإسرائيل، أو ممارسة أي شكل من أشكال التطبيع معها. هؤلاء هم الأبطال الحقيقيون الذين عادوا إلى بلدانهم وشعوبهم وأمتهم بميداليات الكرامة والشجاعة. هؤلاء من يمثلون حقيقة شعوبنا العربية لا الحكام المطبعين الراكعين على أقدامهم، يستقبلون القتلة والمجرمين في مطاراتهم ويفتحون السفارات ويوقعون العقود. هؤلاء هم الرد البليغ على المطبعين. كتبت صحيفة «يديعوت أحرونوت» الصهيونية معلقة على الانسحاب: «العرب يجعلون منا أضحوكة بانسحابهم أمام لاعبينا. توجد كل أنواع اتفاقيات السلام، والحبر الذي لا يكاد ينتهي بالطابعة من كثرة النسخ، أما على الأرض، على المنصة التي تفحص فيها العلاقات الإنسانية يثبت الرياضيون من الدول العربية أن إسرائيل من ناحيتهم ليست موجودة». نعم لأن التعامل مع إسرائيل وكأنها موجودة يعني إعادة برمجة العقل العربي لتقبل دولة مارقة، قامت على أشلاء الشعب الفلسطيني، واحتلال الأراضي العربية وانتهاك القانون الدولي والتمرد على كل ما هو أخلاقي ونبيل. إن رفض وجودها ذهنيا هو الأساس لبقائها كيانا غليظا مارقا، لا ينتمي إلى المنطقة، ولا إلى منظومة الأخلاق الإنسانية. فهذا الرياضي الذي يقف أمامه العربي الحر، قد يكون انتهى لتوه من هدم أحد البيوت أو إطلاق النار على الأطفال، أو اعتقال شيخ مسن أو اقتحام الأقصى مع مجموعة من المستوطنين

لقد دخل هؤلاء الأبطال قلوب شعوبهم أولا وقلوب الشعوب العربية وكل من ينتصر للحق والعدل ويقف ضد القهر والظلم والاستبداد. وكم كان جميلا رد الفعل العفوي لشعب الجزائر العظيم، بأن يستقبل اللاعب والمدرب في مطار بومدين ويحتفل بعودتهما ويحملهما على الأكتاف، لأنهما عادا مكللين بميدايات الكرامة والشجاعة والأنفة. ولو يسمح للشعب السوداني أن يستقبل بطله محمد عبد الرسول العائد بميدالية العزة والكرامة لفعل مثل اخيه الشعب الجزائري، لكن هناك من يراقب ويعاقب. فالكيان الصهيوني لديه وكلاء حصريون في المنطقة يكافئون من يطبع ويعاقبون من يتردد أو يرفض

بين الرياضة والسياسة والنفاق الغربي

الغرب المنافق الذي يحاضرنا في مسألة فصل الرياضة عن السياسة، لحماية الكيان الصهيوني، استخدم الرياضة بما فيها الألعاب الأولمبية سلاحا ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا لعزلها ومعاقبتها، والضغط عليها لإلغاء ذلك النظام الكريه، الذي لو قورن بنظام الأبرثايد في الكيان الصهيوني لكان الأول أكثر رحمة وأقل عنفا. وفي أولمبياد 1980 في موسكو قاطعت الولايات المتحدة الدورة وتبعتها اليابان وألمانيا الغربية، ثم الصين والفلبين والأرجنتين وكندا، عقابا للاتحاد السوفييتي لاحتلاله أفغانستان عام 1979. بعض الدول الأوروبية أرسلت فرقا أقل للدورة وبعضها سار تحت علم الأولمبياد بدل علم بلاده. الرئيس الأمريكي جيمي كارتر أرسل الملاكم الشهير محمد علي إلى بعض الدول الافريقية لإقناعهم بالمقاطعة مثل السنغال وتانزانيا ونيجيريا. وانضمت دول عربية للمقاطعة منها، السعودية ومصر والسودان. وفي مباريات كأس العالم لكرة القدم عام 1966 في بريطانيا قاطعت الدولة الافريقية الدورة للتمييز ضدهم وإعطائهم نصف مقعد والنصف الثاني لآسيا. لقد طرد اتحاد كرة القدم الآسيوي إسرائيل من صفوفه عام 1974 بعد أن رفضت الكويت مواجهتها بعد فوز إسرائيل على إيران الشاه. وظلت مطرودة من الاتحاد حتى اليوم فاضطرت أن تنضم للاتحاد الأوروبي لكرة القدم، ومنذ ذلك اليوم وشرفاء العرب يقاطعون الكيان الصهيوني، رغم الضغوطات الكثيرة. فقد انسحب من مواجهة لاعبيها في المباريات جزائريون ومصريون وتونسيون ويمنيون ومغاربة وكويتيون وسعوديون وليبيون ولبنانيون. هؤلاء هم ضمير الأمة وحصانتها ضد الانحراف

وفي النهاية نحيي الجزائر لأنها قررت أن تمنح اللاعب فتحي نورين والمدرب عمار بن يخلف ميداليتين ذهبيتين في احتفال رسمي إشادة بدورهما البطولي في أولمبياد طوكيو ليعرف الجميع أن ميدالية الكرامة أغلى من ميدالية الذهب وأبقى.