الأزمة الوطنية ومعضلة سؤال ما العمل
أخبار البلد-
لم يكن سؤال ما العمل لحيدر عبد الشافي في سنوات حياته الأخيرة مجرد تساؤل غير معلوم الجواب بالنسبة له وربما بالنسبة للأغلبية التي تدفع ثمن غياب الرؤية و الحكمة والإرادة من قبل مؤسسات الحكم القيادية في فلسطين؛ ولذلك تحولت مقولاته حول هذا السؤال عن الأخلاق التي يجب أن تحكم كل من هم في موقع صنع القرار وظل أبو خالد يؤشر لحالة الانحطاط، ويردد هاتين المقولتين حتى غادر حياته المليئة بالعطاء، تاركاً فجوات تلك الأسئلة خلفه تكبر بلا أجوبة بفعل ذلك الانحطاط التي توجت بحالة الانقسام التي كانت قد بدأت للتو قبل رحيله.
لم يعد سؤال ما العمل مجدياً إذا ظل موجهاً للقوى المهيمنة على المشهد الوطني، ليس فقط لأن من صنع المشكلة لا يجب توقع الحل منه، فهو جزء من المشكلة و ليس جزءاً من حلها. بل ولأن واقع قيادات هذه القوى بات مزمناً لا أمل يرتجى منها للتراجع أو التغيير هذا الكلام يبدو أنه بات ينطبق أيضاً على طيف النخبة المسيطرة على المشهد وتقتسم الحكم أو تتذيل مُستقطبةً على ضفتيه.
عندما تأسست مبادرة وطنيون لانهاء الانقسام، والتي لم يعد يسمع بها أو يهتم لها أحد، كان السؤال الجوهري هو كيف نُحوِّل الأغلبية الكاسحة من الفئات الاجتماعية المتضررة من الانقسام الذي يكسر ظهر الوطن و القضية لحالة فعل تدفع الأقلية الضيقة جداً، والمستفيدة من هذا الانقسام وتوظفه لمصالحها الشخصية، بأن تُسلَِم لارادة هذه الأغلبية و المصالح العليا لشعبنا وقضيته. جوهر أسباب اندثار هذه المبادرة أنها تحولت لمنبر كلامي أو أنشطة ضيقة في مركز رام الله التي لم يعد يهتم له غالبية الناس دون أن تربط دورها بالمصالح المباشرة لمن يدفعوا ثمن هذا الانقسام من قوت أطفالهم وازدياد البطالة و اغتيال الأمل في أوساط الشباب ناهيك عن تمكُن حكومة الاحتلال بفعل هذا الانقسام من الاستفراد بالجغرافيا الفلسطينية باحكام الحصار على أهل القطاع و تهويد القدس و نهب أراضي باقي الضفة الغربية.
لم يعد هناك تمايز حقيقي بين جميع أطراف النخبة بغض النظر عن مواقعها من الحكم والمعارضة سوى بالكلام و الشعارات اللفظية، حيث سيطرت المماحكات وضيق الأفق على معظم محاولات شق الطريق نحو حالة بديلة، والتي ظلت حبيسة الموروث المتهالك، أو ألاعيب صغيرة تحت وهم احتكار الحقيقة وشيطنة كل من يمتلك رأياً لتوسيع دائرة البديل في ظل اختناق الحالة التي تميزت وما زالت تتميز بالاقصاء أو الاستنكاف.
أمام هذا الواقع الذي ينهار يومياً دون اكتراث، ودون أن تراجع أياً من أطراف الحركة الوطنية لمسارها أو العمل الجدي لتصويب خطاياها، الأمر الذي يعمق أزمة المشروع الوطني واصطدامه بالفشل وفقدان الشباب الثقة في الحركة الوطنية وتشوه النموذج الوطني ..مما يستدعي اعادة بناء وبلورة حركة شبابية جامعة وطنية تتجاوز تشوهات الاجسام التي نشأت على هامش الانقسام، سيما في ظل ما تشهده القضية الفلسطينية من تحولات في الرأي العام الدولي ، حيث لم يعد العالم يحتمل استمرار الاحتلال و ارتكابه المزيد من جرائمه اليومية دون مساءلة، والتصرف كقوة فوق القانون بل وخارجه عنه، و ينهض الرأي العام الدولي في أرجاء المعمورة لوصف هذا الاحتلال بالأبارتايد الذي يجب تصفيته و وضع حد لجرائمه ،والانتصار لعدالة القضية الفلسطينية. فلم يعد هناك من أمل لاستثمار هذه التطورات سوى الاطاحة بالانقسام والانقساميين، و نهوض حركة وطنية جديدة تقود نضال شعبنا نحو الحرية والخلاص الوطني .
نعم، لقد بات التغيير واجباً وطنياً، ويبدو أن الاجيال الشابة التي لم تُخضع لحسابات ضيقة فقط هي المؤهلة لترميم الراية وصون الحلم بقيادة هذا الخيار التاريخي. ودون فوقية إلقاء المواعظ والدروس على هذا الجيل، فإنني أعتقد أن ما سيمكنهم من الامساك بدفة زمام المبادرة؛ بأن ينتقلوا برؤيتهم لأنفسهم من حالة الرفض والتردد وتوقع بأن يقوم غيرهم بقيادة هذا التغيير إلى حالة المبادرة والائتلاف العريض لجميع الحراكات الشبابية المتنوعة و النشطاء الشباب مع كل من لديه المصلحة في احداث هذا التغيير لبلورة أجندة وطنية إزاء ماذا يريدون وكيف يحققونه، وليس فقط ماذا يرفضون. مثل هذا التحوُّل سيمهد الطريق لبناء حركة شبابية اجتماعية وطنية عريضة سرعان ما تتطور إلى حركة وطنية تقدمية فاعلة وقادرة على قيادة مشروع الانقاذ الوطني وجوهره النضال من أجل العودة والحق في تقرير المصير لكل الشعب الفلسطيني في فلسطين وخارجها، وحتى يتحقق ذلك فالصمود والبقاء المقاوم وما يتطلبه من مؤسسات وطنية قوية وجامعة، وقيادة وطنية موحدة في اطار التنوع واحترام التعددية السياسية و الفكرية هي الأسس الناظمة للاستراتيجية التي يجب أن نحتكم إليها لترميم المجتمع و الفضاء السياسي تمهيداً لخلق بيئة تمكن من اجراء انتخابات ديمقراطية شاملة تجدد البنى السياسية وتفضي لبلورة قيادة جديدة للنضال الوطني.