في اليوم العالمي لمناهضة الاتّجار بالبشر.. المعضلة تزداد سوءاً
أخبار البلد -
هؤلاء يشعرون بكونهم ليسوا فقط أفراداً حقّهم الطعام والماء والسكن، ولكن يشعرون أن الحصول على حق المساواة يمنحهم كثيراً من الإحساس بالآدمية، وعلى الجانب الآخر يناضل مجرمون آخرون لتوسيع أنشطتهم التي هي عكس ذلك تماماً، فقد زادت أيضاً مساحة انتشار جرائم الاتجار بالبشر انتهاكاً لقيمة عظيمة هي تكريم الإنسان.
الاتجار بالبشر هو نشاط اقتصادي كبير وهائل منتشر في جميع دول العالم، سواء إن كانت الدولة نقطة تجميع للأفراد أو كانت بلد العبور أو كانت نقطة استقبال لهم يُوظَّفون فيها في جرائم أخرى متنوعة حسب طلب واحتياج التاجر في هذا البلد.
تزدهر هذه التجارة في البلدان التي تشهد صراعات مسلحة، داخلية كانت أو دولية، وفي وجود كثير من مناطق العالم التي تعاني الاضطرابات وعدم الاستقرار السياسي وتدهور الأوضاع الاقتصادية، وبين مخيمات اللاجئين، وفي بعض البلدان لا سيما بلدان العالم الثالث التي توفّر لعصابات الجريمة موارد متجددة من الضحايا من أجل تحقيق مبالغ طائلة من وراء استغلالهم.
من خلال البحث على محرك البحث "غوغل" ستُفاجأ بأن الاتجار بالبشر يمثّل ثالثة أكبر تجارة عالمياً بعد تجارة المخدرات وتجارة السلاح. لم أكن أدرك أنها بهذا الحجم وذات أرضية اقتصادية ضخمة بهذا الشكل، كنت أتوقع أنها عدة عصابات محدودة لتهريب النساء لممارسة الدعارة قسراً أو للاتجار في الأعضاء البشرية ببعض المراكز الطبية المشبوهة في أماكن قليلة في دول بعينها.
أفصح بيان للأمم المتحدة عام 2018 عن اكتشاف خمسة آلاف ضحية من ضحايا الاتجار بالبشر أبلغت عنهم 148 دولة، كما استُغِلّ 50% من الضحايا المكتشَفين في أغراض جنسية، في حين استُغِلّ 38% منهم في العمل القسري. لم تزل الضحايا من الإناث يشكّلن المستهدفات الأساسيات، وتشكّل النساء 46% والفتيات 19% من جميع ضحايا الاتجار بالبشر.
وعلى الصعيد العالمي كان واحد من كل ثلاث ضحايا من فئة الأطفال، إذ تضاعفت نسبة الأطفال بين ضحايا الاتجار المكتشَفين ثلاث مرات، فيما زادت نسبة الأولاد خمس مرات على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية.
هنا يبرز السؤال ضخماً على لافتة حمراء أمامي: "لماذا ينتشر الاتجار بالبشر ويزداد عاماً بعد آخَر؟"، بمعنى آخر: ما المقوِّمات أو العوامل التي تقوِّي وتمدّ هذه التجارة بالاستمرارية، بل وبالقبول، عند الضحايا؟
أولاً: عوائدها الاقتصادية الضخمة، فهي مربحة جداً وغير مكلفة للتجار، كل ما يحتاجون إليه هو بؤرة صراع يُشحَن الأفراد منها إلى دولة تحتاج إلى عمال مسخَّرين بلا أجر، أو فتيات ونساء للدعارة بلا قانون يحميهن ولا أجر أيضاً، هو لا يدفع سوى مصاريف الانتقال والرشوة اللازمة لتمرير شحنات النساء والأطفال في الأغلب.
ثانياً: الفقر، وهو ما يزداد انتشاراً أيضاً، فبلدان كثيرة فقيرة تعاني إهمال المجتمع الدولي إلا من بعض المساعدات البسيطة التي لا تقوّيها ولا تبني لها اقتصاداً حُرّاً يجعلها دولة لا تعتمد على المعونات، فتظلّ دولة فقيرة يعاني أفرادها فقراً شديداً ونسبة بطالة كبيرة وأمية، وبالتالي جهلاً بحقوقه، فيشعر الفرد بعدم الاستحقاق والحياة كباقي البشر، فينظر إلى نفسه وإلى أسرته نظرة دونية ويبدأ الإحساس برخص نفسه وهوانه، حينها يتلقى عرضاً للهجرة غير الشرعية فيستجيب، أو عرضاً ليرسل بناته أو زوجته للعمل في الدعارة مقابل المال فيستجيب، أو يقبل أن يبيع عضواً من جسده، ويصبح بسبب بطالته وعوزه هدفاً رائعاً لأي تاجر يريد الربح ما استطاع.
الكارثة أن البلدان العربية تعاني الفقر أكثر من باقي دول العالم، ففي تقرير أصدره البنك الدولي بعنوان "الفقر والرخاء المشترك: حل معضلة الفقر" ويضمّ التقديرات العالمية والإقليمية لأوضاع الفقر، تَبيَّن أن المنطقة العربية هي الوحيدة في العالم التي ارتفعت فيها نسبة الفقر المدقع، إذ ارتفع من 2.7% إلى 5% في الأعوام الماضية، ممَّا أدى إلى مضاعفة عدد الفقراء المدقعين ليصل إلى 18.6 مليون يعيشون بأقلّ من 1.90 دولار للفرد في اليوم.
كما أظهرت نتائج التقرير العربي حول الفقر المتعدد الأبعاد الصادر في 2017 عن اليونيسف وجامعة الدول العربية أنه من بين 286 مليون شخص يعيشون في البلدان العشرة التي شملها التحليل، يندرج 1.116 مليون نسمة 6.4% تحت تصنيف الأسر الفقيرة، وضمن هؤلاء يعيش 2.38 مليون، أي 4.13%، في فقر مدقع، مما يعني أن خطر انتشار هذه التجارة يجد أهدافاً سهلة وكثيرة مع تزايد نسب الفقر في بلداننا العربية.
ثالثاً: ضَعف العقوبات، فعلى الرغم من وجود اتفاقيات دولية مثل اتفاقية باليرمو، واتفاقية الأمم المتحدة في نيويورك عام 2004 وتوقيع كل الدول عليها، فإن ضعف تنفيذ العقوبات ساهم في زيادة معدلات جريمة الاتجار بالبشر، إما بغياب وعي أفراد المجتمع بمدى خطورة جريمة الاتجار بالبشر والعواقب الوخيمة التي تنتج عنها فتجعلهم فريسة سهلة لأيدي العصابات، وإما بغياب الدور الإعلامي المرئي والمسموع في توعية أفراد المجتمع وتعريفهم بمخاطر هذه الجريمة مما ساهم في زيادة معدلات هذه الجريمة بشكل أو بآخر، فقلّما نجد وسائل الإعلام تتحدث عن مخاطر جريمة الاتجار بالبشر وما آلت إليه من تطوُّر في أساليب وطرق جذب الأفراد، ليصبحوا ضحايا في ما بعد.
كما أن نصوص بروتوكول الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتفاقية العربية لمكافحة الجريمة المنظمة لم تحدّد أشكالاً واضحة للاستغلال الجنسي، فقد وردت الكلمة في هذه البروتوكولات بشكل مجرد خاطف: "سائر أشكال الاستغلال الجنسي"، وكذلك لم تُدرَج جرائم بيع الأعضاء البشرية ضمن نَصّ بروتوكول الاتفاقية العربية، بل تُعتبر جريمة قائمة بذاتها بعيداً عن تجريمها ضمن أشكال الاتّجار بالبشر.
كثير من النصوص يجب أن يُحدَّد أكثر ويُعرَّف أكثر حتى يُفعَّل توقيع العقوبات، ولا يجد المجرمون ثغرات قانونية ينفذون منها، أو على الأكثر تقع عليهم عقوبات بسيطة لا تردعهم.
رابعاً: غياب الدعم الواضح للضحايا. تنبّه الأمم المتحدة في بيانها السنوي المتزامن مع اليوم العالمي لمناهضة الاتجار بالبشر، وتلفت نظر الحكومات والمجتمع المدني إلى أهمية دعم ضحايا الاتجار بالبشر، وتسليط الضوء على أهمية الاستماع إلى الناجين من الاتجار بالبشر والتعلُّم منهم، وتصوِّر الناجين بوصفهم أطرافاً رئيسية فاعلة في مكافحة الاتجار بالبشر، كما تركز على الدور الحاسم الذي يضطلعون به في وضع تدابير فعّالة لمنع هذه الجريمة وتحديد الضحايا وإنقاذهم ودعمهم في أثناء عملية إعادة تأهيلهم.
فقد عانى -حسب البيان- عديد من ضحايا الاتجار بالبشر من التجاهل أو سوء الفهم عند محاولتهم الحصول على المساعدة، إذ مرُّوا بتجارب مؤلمة في أثناء مقابلات تحديد الهوية والإجراءات القانونية، وتَعرَّض بعضهم -للأسف- للإيذاء والعقاب مرة أخرى على الجرائم التي أجبرهم المتاجرون بهم على ارتكابها، وتَعرَّض آخَرون للوصم أو تَلقَّوا دعماً غير كافٍ بدلاً من دعمهم نفسياً ومادياً جرَّاءَ ما عانَوا في هذه التجارب.
عدم الاستماع إلى الضحايا واعتبارهم مصدرَ معلومات عظيماً للسيطرة على منظومة إجرامية وتعنيف الضحايا، يؤدِّي إلى استمرار وزيادة هذه الجريمة، فمن لا يجد دعماً من الحكومات أو المجتمع المدني فسيلجأ إلى مَن يقدم له المال والمسكن ويغريه بحياة أفضل.