في الجزائر... لماذا تختفي الكاتبات بعد الخمسين؟

أخبار البلد-

 
لماذا تختفي الكاتبات الجزائريات سريعاً؟ سؤال دائماً ما تكرر. لماذا يُعلن اعتزالهن الأدب باكراً؟ هذا موضوع ما يزال في قلب النقاشات. هل سن الخمسين هي منعطف التحول في حياتهن؟ ذلك ما بتنا نلاحظه في الأعوام الأخيرة. فعقب ثورة 5 أكتوبر/تشرين الأول 1988، دخلت البلاد مرحلة تحول مهمة، سياسياً واجتماعياً، بل ثقافياً أيضاً، ظهر جيل جديد من الكاتبات، في قطيعة شبه كلية مع جيل ما بعد الاستقلال، الذي كان ممثلاً بزليخة سعودي، زهور ونيسي وجميلة زنير، صارت الجزائر تعج بأسماء نسوية شابة، تثير الصخب في كتاباتها وفي تصريحاتها، صارت صورهن تحصيل حاصل في الجرائد والمجلات، شكّلت تلك الأسماء التي نضجت وخرجت من صمتها مع بداية العقد الأخير من القرن الماضي تياراً مستقلاً، داخل الأدب الجزائري، وقفن في مواجهة ذكورية المجتمع في وجه تعنت الحالة السياسية، لم يتراجعن في خضم سنوات الدم، يوم كانت رؤوس الكتاب على قائمة الجماعات الظلامية، واصلن عملهن، وفي الغالب كن يكتبن وينشرن بأسمائهن ـ وهنا خاصية الكاتبة الجزائرية، ففي مجملهن ظهرن بهوياتهن الحقيقية، لا متخفيات بأسماء مستعارة ـ لكن في السنين الأخيرة وقد بلغ ذلك الجيل عتبة الخمسين، سرعان ما توارت كاتباته، لم يعد لهن أثر في الكتابة، عدا حضوراً محتشما في مواقع التواصل الاجتماعي، هل هناك لعنة تلحق كل كاتبة في الجزائر؟

الحكم على الكاتبة قبل مُحاكمتها

لسنا هنا بصدد الحديث عن كاتبات هاجرن إلى الخارج، فنجون من مقبرة الأدب التي تتسع في الداخل، فالمحظوظات هن من وجدّن طريقا للاغتراب، فواصلن الكتابة، أما الأخريات فإن تعددت أشكال اعتزالهن ـ غير المعلن ـ للكتابة، فإن الأسباب تكاد تكون مشتركة، ففي 2013 توفيت الروائية يمينة مشاكرة، عن عمر ناهز الرابعة والستين، لكنها كانت قد توقفت عن الكتابة قبل أن تتم الخمسين من عمرها، منذ روايتها الأخيرة «آريس» (1999). في الثمانينيات، كانت مشاكرة نجمة الصف الأول، في الأدب الجزائري، منذ باكورتها «المغارة المتفجرة» التي وقّع توطئتها كاتب ياسين، قائلاً إن «كل امرأة تكتب، امرأة تزن باروداً» لكن مشاكرة كانت تزن معاناة أيضاً، فبعد سنوات قضتها طبيبة نفسية في مشفى عام، وجدت نفسها في الأخير تستلقي على سرير في المشفى ذاته، نسيها الناس والنقاد والباحثون، إلى أن أغمضت عينيها ولم تستفق. كم من «يمينة مشاكرة» في الجزائر؟ الكاتبة الجزائرية تعلم ـ مسبقاً ـ أنها سوف تُحال إلى النسيان بمجرد أول انكسار في حياتها، كأن تمرض مثلاً، فلن تجد من يعينها، في أفضل الحالات ستعينه وزارة الثقافة ببرقية تعزية إلى أهلها بعد دفنها. ألا تستشعر السلطة في الجزائر أهمية حضور المرأة أدبياً؟ هل يجب أن تموت الكاتبة كي نذكرها؟ في ظل هذا المزاج المتحامل على المرأة، تجد الكاتبات أنفسهن في سباق محموم مع الحياة، في نزعتهن إلى تأسيس عائلة تضمن لهن الحد الأدنى من الكرامة، في بلاد لا تعترف بالمرأة، إلا إذا أنجبت وانصرفت إلى واجبات الأمومة. هنا سوف تسقط الكاتبة في فخ آخر، فالزواج غالباً ما يكون مقبرة أخرى للأدب. إن التجارب التي تجمع بين كاتبين متزوجين ولاقت نجاحاً، في الجزائر، لا تتعدى أصابع اليد الواحدة، في مجمل الحالات يطغى ضوء الكاتب وتنزاح الكاتبة إلى الظل، فالكاتب الجزائري ديمقراطي في الظاهر، متدين في الباطن، يُدافع عن حقوق المرأة بجرأة، شريطة ألا تكون زوجته، في هذه الحالة سوف يتعامل معها مثلما يتعامل معلم مع تلميذ، بالأمر والنهي، لا بالنصح والود. لطالما شغفتنا قصص نجاح زيجات كاتبات بكتّاب، نسمع عنها في المشرق أو في الغرب، فلماذا الأمر يكاد ـ اليوم ـ يصير مستحيلاً؟ ولماذا لا يتنازل الكاتب قليلاً عن ذكوريته؟

صفية كتو شاعرة لا أخوات لها

في 1979، ظهرت مجموعة شعرية بعنوان «صديقتي القيثارة» لكاتبة اسمها صفية كتو، لم تتجاوز أواسط الثلاثينيات من العمر، سرعان ما لفتت الانتباه إليها، نظير كتابتها المتحررة، وانخراطها الشخصي في قضايا تحريرية، من فلسطين إلى فيتنام، عكس نظيراتها اللواتي غصن في ترديد أناشيد النظام، ومحاكاة مزاجه في الكتابة

صفية كتو كانت الاستثناء في جيلها، كاتبة واعية ومناضلة على كل الجبهات، أصدرت لاحقاً مجموعة قصصية ومسرحية، لكن في شتاء 1989 استفاق الناس صباحاً على صوت منبهات سيارات الإسعاف، فقد ألقت صفية بنفسها من جسر في وسط الجزائر العاصمة، انتحرت بعدما شعرت بأن انغلاق المجتمع وتماديه في التحامل على المرأة سوف يهزمها. إذا كان انتحار تلك الشاعرة انتحاراً فعلياً، فإن كاتبات جئن من بعدها ينتحرن، كل مرة، انتحاراً رمزياً، يرمين بكتاباتهن من جسور معلقة، يتخلصن مرغمات من هوية الكاتبة ويختفين خلف قناع المرأة وكفى، المرأة التي يريدها الجزائري، مطيعة وطيعة، فهو يرى في الكتابة شكلاً من أشكال التمرد عليه، لا يرفضها علناً، لكنه يبذل جهداً في كبح نزعة المرأة نحو الاستمرار فيها

وإن كان العنف ضد المرأة ليس دائماً ظاهراً، فإنه يتسع في الخفاء، لنا في حالة إيزابيل إيبرهارت (1877-1904) نموذجاً، فرغم انتمائها إلى الجزائر، كتاباتها عن الجزائر، دفاعها عن جزائرية الجزائر، نصرتها للجزائريات، لا تزال بعد أكثر من قرن من رحيلها تلاحقها تهم العمالة ومؤازرة الاستعمار، مع أن خصومها لم يستطيعوا يوماً تقديم دليل على أقوالهم، لكن كونها امرأة فقد كانت وما تزال محل شكوك من الرجال. وتهمة العمالة من التهم الجاهزة، معلبة صالحة للاستخدام في كل حين ضد المرأة الكاتبة، فإن نجت الجزائرية من مرض أو سقوط في النسيان، كما حصل مع يمينة مشاكرة، وإن قاومت ولم تنتحر ـ فعلياً أو رمزياً ـ كما فعلت صفية كتو، فإنها لن تجد باب خروج من التهم التي سوف توجه لها، بالانتماء إلى عصبة دون أخرى، فكل امرأة كاتبة هي امرأة تحت طائلة الاتهام، هل يجب أن يكون الإنسان رجلاً كي يُمارس الأدب في الجزائر؟