ربيع أميركا "الإسلامي"..

تخوّفت الولايات المتحدة، بادىء الأمر، من الانتفاضات الشعبية العربية. وجدت انها استهدفت نُظُماً سياسية صديقة لها، في معظمها، او حليفاً. سارعت الى احتوائها بسياسة قوامها التخلِّي عن رأس النظام، بغية المحافظة على جسمه. فعلت ذلك في تونس ومصر واليمن، بالتعاون مع قوى إسلامية محافظة. نجحت في ليبيا بإقامة تركيبة سياسية مَدينة للغرب الأطلسي بالقضاء على رأس النظام وجسمه معاً، ومستعدَّة لوفاء الدَين المستحق، بتوريد ما خلّفه القذافي من أسلحة لـِ "السلفيين الثائرين" في سورية. واستنفرت نفسها وحلفاءها لفرض عقوبات اقتصادية جديدة على سورية وأخرى اضافية على إيران، فارتدى "الربيع العربي" حلّةً "اسلامية" وقبعة اميركية. ما سر هذه الانعطافة؟
ثمة تحوّلات ثلاثة تستبطن التطورات السياسية والإقتصادية والأمنية التي تعصف بعالم العرب وتفيض عنه الى عوالم أخرى.
التحّول الاول جرى ويجري داخل الإسلام السياسي وبين المسلمين. كانت ثورة إيران الإسلامية انجبت اسلاماً مغايراً، مقاوماً ومعادياً لأميركا و«إسرائيل». الإسلام المقاوم بادر الى دعم قوى المقاومة العربية ولاسيما في فلسطين ولبنان. تخوّفت أميركا و«إسرائيل» من نقل عدوى المقاومة الى بلدان عربية واسلامية أخرى، فباشرت بدعم قوى الإسلام المحافظ الذي كان بعضه يساند المقاومة الفلسطينية وبعضه الآخر يحاول ضبطها. غير ان تطوُّرات محلية واقليمية دفعت الإسلام المحافظ الى تكييف سياسته بغية التعاون مع أميركا للجم الإسلام المقاوم. مقتضيات التكيّف وإعادة التموضع انجبتا إسلاماً سياسياً مسالماً أقل عداءً لـ "إسرائيل" وأكثر تحفظاً إزاء إيران وحلفائها الاقليميين.
هذا التحوّل داخل الإسلام المحافظ / المسالم انعكست مفاعيله على معظم الحركات الإسلامية في المشرق والمغرب ما أدى الى حصول تباعد بين الحركات الإسلامية، والحركات القومية والديمقراطية واليسارية. حتى فصائل المقاومة لم تنجُ من آثار الاصطفاف الجديد، فرسّخ بعضها تحالفه مع قوى الإسلام المقاوم بينما عمّق بعضها الآخر تعاونه مع قوى الإسلام المحافظ/المسالم. الامر نفسه انعكس على تركيا بدليل ان مرشد حزب العدالة والتنمية التركي الفقيه فتح الله غوني، المقيم في أميركا، انتقد حكومة اردوغان راعيةً "اسطول الحرية" لفك الحصار عن غزة.
في الانتفاضات الشعبية التي عصفت بعالم العرب، من مغربه الى مشرقه، لوحظ ترحيب الحركات الإسلامية عموماً بسياسة أميركا القاضية بالتضحية برؤوس النُظُم السياسية بغية الإحتفاظ بأجسامها. بل ان بعض هذه الحركات سعى الى محاورة أميركا لتفادي عداوتها في سعيه المحموم الى السلطة. عملية التكيّف مع السياسة الاميركية في المنطقة سلكت طريقين: الأول، الإيحاء بأن الحركات الإسلامية تستلهم في الممارسة نموذج الاسلام التركي. الثاني، الاصطفاف الى جانب دول الإسلام المحافظ/المسالم في مناهضة إيران وسورية المعاديتين لأميركا و"إسرائيل" والحاضنتين للإسلام الآخر المنافس: الإسلام المقاوم. هذا ما يفسر، جزئياً في الأقل، انتقادات هذه الحركات في المغرب وتونس والاردن ومصر للنظام السوري وقوى المقاومة في فلسطين ولبنان.
التحوّل الثاني جرى ويجري في إيران كما في سورية والمقاومة اللبنانية والفلسطينية. فإيران تتحول بسرعة الى دولة اقليمية مركزية، وامتلاكها القدرة النووية يثير مخاوف أميركا و"إسرائيل". مرد المخاوف ليس السلاح النووي الذي لم يستعمل قط منذ 1945 بل قدرات إيران الصناعية والتكنولوجية والاقتصادية وبالتالي العسكرية الكافية، دونما سلاح نووي، لتهديد مصالح أميركا النفطية في المنطقة وأمن "إسرائيل"، ناهيك بإنعكاس ذلك إيجاباً على قدرات حلفائها. ثم إن انسحاب أميركا من العراق سيؤدِّي الى ملء "فراغها" من طرف إيران ما يُفضي بدوره الى تقوية محور الممانعة والمقاومة الممتد من طهران الى بيروت عبر بغداد ودمشق.
الى ذلك، يواجه هذا التحوّل المتصاعد مخطط اردوغان العثماني الرامي الى ربط العالم العربي، كما العالم الطوراني بما يتضمَّنه من شعوب اسلامية في روسيا ذاتها فضلاً عن آسيا الوسطى، بتركيا سياسياً واقتصادياً. هكذا تلاقت مصالح أميركا وأوروبا وتركيا على ضرورة مواجهة إيران وقوى المقاومة العربية وذلك بفك ما تظنه "الحلقة الضعيفة" في محور الممانعة والمقاومة، اي سورية، لتأمين مصالح الغرب الأطلسي وحماية أمن "إسرائيل". وليس أدل على جدية هذه المواجهة وحماوتها من ان المعارضة السورية الخارجية المتمثِّلة بـِ "المجلس الوطني السوري" رضخت اخيراً لجماعة الاخوان المسلمين في سورية الموالية لحزب اردوغان "الإسلامي" فجاهر رئيسه، برهان غليون، ذو الخلفية العلمانية واليسارية، بإعتزام مجلسه، بعد الوصول الى الحكم، قطع التحالف الاستراتيجي بين سورية وإيران، ووقف الدعم اللوجستي لحزب الله و"حماس"، والسعي الى استعادة الجولان السوري المحتل بالتفاوض مع "إسرائيل" وليس عبر الصراع المسلح، داعياً الى فرض منطقة حظر جوي على سورية...
التحوّل الثالث يتمثَّل بعودة الحرب الباردة، ببطء لكن بثبات، بين الغرب الاطلسي من جهة وروسيا والصين من جهة أخرى، مصحوبةً باستقلالٍ متزايد للدول الصاعدة في آسيا وافريقيا وأميركا الجنوبية، كالهند وإيران وماليزيا والبرازيل وفنزويلا وجنوب افريقيا، عن النظام الرأسمالي العالمي الذي تقوده أميركا. الصراع يدور حول موارد الطاقة، والسيطرة على المضائق الإستراتيجية، والأسواق القارية. الى ذلك، تخشى روسيا من احتمال انتقال عدوى الإسلام السياسي المحافظ ونفوذه، بقيادة تركيا، الى مجتمعاتها الإسلامية (الشيشان، داغستان، التتار) والى دول آسيا الوسطى الإسلامية حيث مداها الحيوي. وقد تحسّبت روسيا لإقامة مواقع رادارية اطلسية في بولونيا وتركيا لرصد صواريخها البالستية، فردّت بإقامة علاقة استراتيجية مع إيران وسورية ودعم الاخيرة بتزويدها انواعاً متقدِّمة من صواريخ الدفاع البحري والجوي.
في ضوء هذه التحوّلات الاقليمية والعالمية يمكن الإستنتاج أن عالم الإسلام، بتلاوينه ومجتمعاته كافة، بات مشهداً لصراع سياسي واقتصادي واستراتيجي محموم تلعب فيه الحركات الإسلامية، بنوعيّها المقاوم والمسالم، ادواراً محليَّة واحياناً اقليمية بالغة الأهمية. هذا الإصطفاف الذي تنهض أطرافه الاسلامية بمهام وادوار وعمليات لافتة، لا ينطوي بالضرورة على تبعية من طرف القوى الصغرى والمتوسِّطة للقوى الكبرى. بالعكس، نقع بين قوى المقاومة العربية على اطراف، كسورية وحزب الله و"حماس"، حريصة على استقلاليتها القيادية والميدانية. ذلك انها تمتلك، الى الموقع ومسرح العمليات الإستراتيجيين، هامشاً كبيراً من حرية العمل والمناورة، بفضل قدراتٍ كبيرة في السلاح والتدريب والخبرة القتالية.
في هذا المجال، تمتلك سورية مئات الالآف من الصواريخ ذات المدى القصير والمتوسط المنتجة محلياً، بالاضافة الى عدد كبير من الصواريخ ذات المدى البعيد من انتاج إيران. وكان مصدر روسي عسكري- دبلوماسي قد كشف لوكالة "انترفاكس" ان روسيا سلّمت سورية منظومة متحرِّكة للدفاع عن السواحل تتضمن صواريخ عابرة مضادة للسفن من طراز "ياخونت"، وان "هذا السلاح يسمح بتغطية كل الساحل السوري وردع أي هجوم محتمل من البحر". كما تردَّد ان روسيا كانت قد سلّمت سورية منظومة متحرِّكة للدفاع الجوي من طراز اس اس – 300 قادرة على إصابة احدث وأسرع وأقوى الطائرات المقاتلة.
كل ذلك يشكّل رادعاً لاجماً لخيار الحرب ضد سورية ولمحاولة فرض منطقة حظر جوي عليها .