تحولات الذات في رواية "جنوبيّ"

أخبار البلد-

 
عندما كتب الروائي الجزائري عبد الحميد بن هدوقة رواية "ريح الجنوب" في عام 1970 ،ارتفعت األصوات النقدية التي ُترحب بهذا العمل اإلبداعي بوصفه يمثل أول رواية جزائرية مكتوبة باللغة العربية، وأول محاولة ناضجة في األدب الجزائري تتجه نحو السرد الروائي، مّما جعلها تتحول إلى فيلم سينمائي عام 1976 ،فكانت بذلك مبعث سرد .روائي انبثقت منه شخوص الرواية كاشف ًة مرجعّية الدين في توجيه المجتمع للقيم اإلنسانية في حقبة زمنّية معينة، فإن رواية "جنوبّي" للروائي األردني وإذا كان الفن الروائي بشكل عام وصفًا ناضجًا، وثيق الصلة بالواقع فنّي ًا رمضان الرواشدة الصادرة عام 2019 عن دار الشروق للنشر والتوزيع، تشّكل عم ًال .وتغيراته المدهشة تعكس الرواية موقع الفرد )الذات( في المجتمع، فكانت رواية السيرة الذاتية، أو ما يمكن تسميتها "السيرة الروائّية"؛ فنّي ًا، أبرز من لبيان موقف الروائي من قضايا الواقع، ورغبته في ترسيخ مضامين فكرية، أكسبها الرواشدة طابعًا خالله قدرة الذات المتحصنة بقيمها ورؤاها في التأثير في الشخصيات؛ لصياغة موقعها األيديولوجي، وبيان عالقاتها .مع منظومة القيم الثقافية، واألنساق الفكرية التي تتجاذب األفراد في فترات زمنية مختلفة تجّسد الرواية صراعات أيديولوجية تالمس شرائح مختلفة من المجتمع األردني، وكان التركيز على شريحة المثقف الذي تنتجه المعاناة، وتصقله التجربة السياسية؛ فشخصية "جنوبي ابن سمعان" هي نتاج العائلة الريفية الفقيرة التي ينتمي فيها األب لمؤسسة الجيش التي تعكس مكانة سامية في نفوس األردنيين تصل إلى ح ّد القداسة؛ فـ"جنوبّي" ابن .لجندي يتنقل من مدينة إلى أخرى؛ دفاعًا عن الوطن، وحماية لقيمه النبيلة ومن ناحية اجتماعية، يظهر "جنوبي" أكثر صراعًا مع الفقر الذي رافقه في مراحل مبكرة من حياته، فكانت صياغة .األحداث صياغة فنّية تعكس معاناة هذه الطبقة االجتماعية، وحقها في إثبات وجودها وتحقيق نوازعها الفكرية ُيحيل عنوان الرواية إلى النص؛ حيث تتطابق المعلومات التي يسردها الرواشدة عن "سمعان" مع سيرة والده، واألمثلة كثيرة في الرواية التي ُتبرهن على أن رواية "جنوبّي" سيرة روائية لرمضان الرواشدة، تكشف عن حقائق .مدهشة من مسيرته الحياتية المليئة بالصعاب والمتخمة باألحداث ترصد الرواية تجربة الذات في مواجهة الواقع ومحاولة كشف التحوالت الفكرية التي ُتبرزها الذات في استكشافها .لمعنى الوجود، ورغبتها في االنعتاق من سطوة الواقع وانكساراته المستمرة تبدو الحكاية اإلطار في الرواية؛ لتوجز التحوالت التي طرأت على حياة "جنوبي" لتحقيق طموحاته، وانتزاع في المجتمع، حيث يكشف عن مواجهة حادة مع اآلخر

إّن أسئلة الذات وهواجسها المقلقة واضحة في الرواية بعدما كشف الكاتب عن مسارات مدهشة من حياته، وبخاصة .عندما جّسد لنا تقلباته وانفعاالته عبر أزمنة مختلفة لقد أجاد الرواشدة في التشحيص األدبي لواقعه وحبك السرد الحكائي لروايته. ومن المالحظ أن ضمير المتكلم في .الرواية يفقد سطوته وهيمنته عندما يزاوج الكاتب بين الكتابة عن الذات والكتابة عن اآلخرين في نطاق السرد وعلى نطاق آخر، وّفر الرواشدة لروايته قيمة فنية، ومتعة جمالّية تقود المتلقي إلى تأويل األحداث المسرودة ومحاولة إيجاد صالت وثيقة بين المسرود والواقع، حيث يتداخل التخييل الروائي باألحداث الواقعّية في أسلوب يساعد المتلقي .على متابعة القراءة بعيدًا عن سطوة الذات على المسرود إّن أسلوب السرد القائم على االسترجاع واستعادة الحدث كثيرًا ما يمتزج بتنبؤات المستقبل ومهادنة الواقع بإشعاعات .فكرّية ذات تأثير فاعل في األحداث المسرودة يرتبط ضمير المتكلم في الرواية بخطاب الرواشدة األيديولوجي، ومحاولته بعث رؤاه القومّية في النص الروائي، مّما .يجعلنا نقف في الرواية أمام النص الواصف الذي أجاد الرواشدة في صياغته وبعثه من جديد ٍّق واعية للمتلقي، وتأويل ناجح لمرامي النص، حيث يقوم المتلقي بتأويل النص أّما النص الغائب، فينتج عن عملية تل المسرود )الواصف( في ضوء ثقافته الواسعة، إذ ترتبط كثير من األحداث المسرودة في مخيلة المتلقين بمواقف فكرية .للرواشدة أبرزها في مراحل مختلفة من حياته بتلوينات انفعالية تمنح السرد روحًا جديدة تحرر المسرود من خذالن يبدو سرد الرواشدة لألحداث الماضية ممزوجًا الذاكرة وسطوة الماضي على األحداث؛ ذلك أن الذات الساردة زمن السرد ليست هي ذاتها عند وقوع األحداث في زمنها الماضي، فالحالة االنفعالّية هي وليدة لحظتها، حيث ال نملك من الماضي إال الذاكرة التي ال يكتمل سردها .لألحداث كاملة في روايته، إذ لم يعمد إلى التعمّية في السرد بعدما جاءت معظم األسماء والشخصيات كان الكاتب جريئ ًا وواضحًا .واألحداث حقيقية وواقعّية بعيدًا عن الخيال الروائي الذي يغيب كثيًر في روايات مثل هذا النوع من الروايات ُيسجل لرواية "جنوبي" أنها أّرخت ألحداث سياسية مهمة عبر مسيرة رمضان الرواشدة الحياتية، وبخاصة فترات .اعتقاله، وتحوالته الفكرّية من يساري إلى ناصري إلى صوفي وصو ًال إلى "حضن السلة" على ح ّد تعبيره في الرواية تكشف الرواية عن صورة مدينة عّمان الملهمة للمبدعين، وبخاصة عند حديث الراوي العشقّي عن منطقة الهاشمي

لجنوبي، هذه المنطقة التي نمت بالمحبة بين سكانها. وقد جعل الحضور الالفت لمنطقة الهاشمي الجنوبي في الرواية، يقترب من عالم القرية أو "البيت األليف" على ح ّد تعبير باشالر، أكثر من اقترابه من عالم المدينة .من عّمان مكان ًا إّن شخصية "جنوبي" في الرواية لم تفقد ا ّتصالها بالوطن والدفاع عنه في حاالتها األيديولوجية المختلفة؛ ألنها منبثقة .من الوطن، راسخة الجذور في ترابه، مؤمنة برسالته السامية لقد غ ّذت األحداث السياسية المختلفة عبر فترات زمنية متالحقة شخصية "جنوبي" ودفعتها إلى تشكيل فضاء روائي مدهش، يستند إلى قيم الريف األردني، وانتماء سكانه إلى الوطن بصورته األنقى، لذلك فإن بؤرة الصراع في الرواية .انبثقت من الخوف على الوطن والرغبة في تحقيق أكبر تواصل فاعل مع أبنائه لقد سيطر البعد الواقعي للمكان والشخوص في الرواية على بعدها المجازي التخييلي، ولعّل هذا األمر مألوف في .رواية السيرة الذاتية ذات الشخصية الواحدة، والحكاية اإلطار التي يندرج السرد الروائي في فضائها الواسع تعّد رواية "جنوبي" شاهدة على حالة فكرّية وسياسية ناضجة، عاشها األردن في فترات زمنية مهمة من تاريخ الدولة األردنية، سردها الرواشدة بجرأة مقبولة، وبرؤى واقعّية لم تغب عن رغبة الكاتب في تجذير رؤى فكرّية ذات فاعلية ثقافية تنساق وفق قيم واضحة ُتعلي من قيمة الوطن، وتبعث حّبه في اآلخرين، وتؤكد قيمة الفن اإلبداعي بوصفه .ضرورة إنسانية وحاجة نفسّية للتعبير عن الذات في حاالتها المختلفة جنوبي" من الروايات األردنية الرائدة بمضمونها السياسي واالجتماعي الراصد لتحوالت الذات وصراعاتها" لما تؤمن به من أفكار وما تسعى إليه من ترسيخ لقيم إنسانية نبيلة .األيديولوجية العميقة تحقيقًا ثمة روح سياسية منتجة لألحداث بعثها الرواشدة في روايته، تؤكد ضرورة توظيف الحدث السياسي في الرواية، األمر الذي ُيمهد لمرحلة جديدة في الرواية األردنية قادرة على االنفتاح بشكل أكبر على قضايا المجتمع، وتصوير أحداثه .البارزة، ورصد بنية التفكير عند الشخوص الروائية بلغة الرواية وأدواتها الفنية