(أشهر عملية احتيال علمي في التاريخ... إنسان «بيلتداون»)

أخبار البلد -

 
كان لنشر كتاب «أصل الأنواع» للعالم البريطاني تشارلز داروِن عام 1859 وتقديمه لنظريته حول تطور الكائنات الحية، أثر بالغ في الأوساط العلمية والشعبية. وقد اعتمدت نظرية داروِن على مفهوم التطور، من خلال الانتقاء الطبيعي، فانكب العلماء على البحث عن أحافير (الأحفورة هي بقايا إنسان أو حيوان أو نبات من الماضي السحيق) للإنسان الأول، الذي كان شبيها بالقرد وطالما أن التطور عملية تدريجية، فإن الإنسان تغير تدريجيا حتى ظهر الكائن الذي كان ذكاؤه أعلى من ذكاء القرد، ليبدأ التطور الذي أدى إلى الإنسان الحالي، وسمي هذا الكائن في الأوساط الشعبية الحلقة المفقودة The Missing Link، حيث لم يستعمل العلماء هذا التعبير. وسرعان ما أصبح هذا الكائن نصب عين كل باحث في أوروبا

ولم تذهب جهود العلماء المضنية هباء، حيث اكتشفوا إنسان «النياندرتال» (الاسم ماخوذ من اسم وادي في ألمانيا) وإنسان «الكروماغنو» في فرنسا. وقد يكون الأشهر إنسان «هايدلبرغ» عام 1907 في ألمانيا كذلك. واشتركت هذه الأحافير في أن الفراغ المخصص للمخ في الجمجمة، كان صغيرا نسبياً، بينما كانت الأسنان متطورة وشبيهة إلى حد ما بأسنان الإنسان الحالي، ما كان يعني أن مستوى ذكاء ذلك الإنسان كان متدنيا. ولكن جهود العلماء البريطانيين لم تكن ناجحة، حيث لم يعثر على أحافير في بريطانيا، ما شكل خيبة أمل لهم، ومع ذلك رجحوا أن الأحافير الأولى سيتم العثور عليها في جنوب إنكلترا. وكانت المفاجاة عندما استلم مدير قسم الجيولوجيا في متحف التاريخ الطبيعي، أرثر سمث وودورد، في لندن رسالة من صديقه المحامي وهاوي الآثار تشارلز دوسن، يبلغه فيها أنه كان ينقب عن الأحافير بالقرب من قرية بيلتداون في منطقة سَسيكسSussex الإنكليزية، وأعطاه أحد العاملين في مشروع قريب شيئا مكورا، واكتشف أنها جزء من جمجمة، وأنه أخذ بالحفر في المكان، ليكتشف أجزاء أخرى منها، بالإضافة إلى عظام

وتقابل الصديقان حيث جلب دوسن ما وجده من أحافير (أجزاء من جماجم وعظام)، وكانت ذات لون بني يضرب إلى الحمرة، ما تناسب مع لون التربة في المنطقة، التي تم فيها الاكتشاف. وقام وودورد، مدير القسم، بدراسة أجزاء الجماجم التي جلبها دوسن، وتوصل إلى استنتاج أثار دهشته، هو أنها في الواقع تعود لجمجمة واحدة عمرها لا يقل عن خمسمئة ألف عام، أي أنهم استطاعوا أخيرا اكتشاف أحافير لإنسان قديم في بريطانيا. وأطلق على هذا الاكتشاف اسم إنسان «بيلتداون»، وكذلك الإنكليزي الأول

شكّل هذا الاكتشاف مشكلة حقيقية للعلماء في مختلف أنحاء العالم، حيث كان مناقضا لمفاهيمهم العلمية عن تطور الإنسان، والاكتشافات التي تم التوصل إليها في العشرينيات والثلاثينيات

تم الإعلان الرسمي من قبل الاثنين، وودورد ودوسن، بهذا الاكتشاف الكبير يوم الثامن عشر من كانون الأول/ ديسمبر عام 1912 في الجمعية الجيولوجية، وكان مثيرا ومفاجأة سارة، صدمت العلماء الحضور الذين تفحصوا الجمجمة وبعض ما اصطحبها من مقتنيات، مثل تلك العظمة الكبيرة، وتساءلوا عن الأسنان المفقودة (لم تكن سوى أسنان قليلة في الفك العلوي للجمجمة) وشكلها. وكان لهذا الاكتشاف أثر بالغ في معنويات العلماء البريطانيين، لأنهم لم يعثروا على أي شيء مشابه في بريطانيا، على الرغم من جهودهم الحثيثة، بينما كان نظراؤهم الألمان والفرنسيون يحققون الاكتشافات المثيرة، فظهر البريطانيون وكأنهم أقل مرتبة من زملائهم في ألمانيا وفرنسا، حتى إن أحد العلماء الفرنسيين أطلق ساخرا على العلماء الإنكليز اسم الباحثين عن الحصى. وما زاد الطين بلة أن الاحتداد العالمي الذي أدى إلى الحرب العالمية الأولى، كان قد أصبح واضحا للعيان، وكانت الاكتشافات في أوروبا قد أخذت تضر بسمعة إنكلترا، حيث بدت وكأنها بلد بدون تاريخ قديم، وعديمة الأهمية في تطور الجنس البشري. وأصبح هذا الاكتشاف حديث الساعة ليس في إنكلترا وحسب، بل في جميع أرجاء العالم

وزاد الاهتمام بالاكتشاف لصفة أخرى لهذه الجمجمة، وهي كون الجزء المخصص للدماغ أكبر من ذلك في الاكتشافات في أوروبا، ما يعني أن صاحب الجمجمة كان أكثر ذكاء من الآخرين، وبذلك، فإن الإنكليزي الأول كان كذلك الذكي الأول، أي أنه الحلقة المفقود، الذي لم يكن ما يسعى علماء العالم إلى اكتشافه فحسب، بل كان إنكليزيا أيضا. ولذلك، قفزت إنكلترا إلى الصدارة في مجال أبحاث الأحافير البشرية، إذ استنتج الجميع أنها كانت مركزا أساسيا وعلامة فارقة في تاريخ تطور البشرية. وتحمس لهذا الاكتشاف الكثيرون من الشخصيات الإنكليزية الشهيرة، ومنهم السير آرثر كونان دويل مؤلف روايات شرلوك هولمز الشهيرة. ومع ذلك كان هناك من شكك بالاكتشاف من قبل عدد قليل من العلماء، لاسيما من خارج إنكلترا. ومن الطريف في الأمر أن قطعة العظم الكبيرة التي اكتشفها دوسن كانت تشبه مضرب لعبة الكركيت البريطانية، التي يفتخر بها المثقفون البريطانيون، فانتشر اعتقاد مضحك بين الكثير من البريطانيين، أن ذلك الإنكليزي الأول الأكثر ذكاء كان كذلك يلعب الكركيت

سرعان ما أخذ دوسن يكتشف أشياء أخرى، فلم يخيب أمل الذين تساءلوا عن شكل بقية أسنان الجمجمة، إذ قدم لهم سن الناب بعد سبعة أشهر، وكان مشابها لاستنتاجاتهم. وقدم اكتشافات أخرى من الموقع نفسه، بالإضافة إلى موقع قريب، ما أسكت أغلب الأصوات المشككة في الاكتشاف. واستمر دوسن (مكتشف الأحافير) ووودورد (مدير قسم الجيولوجيا في متحف التاريخ الطبيعي) في تنقيباتهم، ولكنهم سرعان ما توقفا بسبب نشوب الحرب العالمية الأولى ووفاة دوسن المبكرة عام 1916

بقيت الأحافير في متحف التاريخ الطبيعي، ووضعت في خزانة حديدية وكأنها كنز ثمين. وتكونت خلية صغيرة من العلماء للإشراف عليها عن كثب، وكان أشهرهم العالم أرثر كيث، الذي كان شديد الإعجاب بهذا الاكتشاف، لاسيما أنه اكتشاف أوروبي، ما عزز الاعتقاد بأن أصل الإنسان كان أوروبيا. ومنع هؤلاء العلماء بقية المختصين في هذا المجال من الاطلاع عليها، ما أثار غضب واستياء الأوساط العلمية في بريطانيا وخارجها. وكان من المعتاد (ولكن ليس دائما) أن يطلع العلماء ومسؤولو المتاحف على مثل هذه الاكتشافات لتقييمها، ولكن هذا الاكتشاف كان من الاستثناءات القليلة حتى أن عالما شهيرا في الولايات المتحدة الأمريكية سافر إلى بريطانيا خصيصا لدراسة هذه الجمجمة، وما اكتشف معها، ولكن بدون جدوى. ومع ذلك فإن كل هذا لم يضر بقوة وشهرة هذا الاكتشاف، الذي دخل الكتب في المدارس والجامعات البريطانية والعالمية

شكّل هذا الاكتشاف مشكلة حقيقية للعلماء في مختلف أنحاء العالم، حيث كان مناقضا لمفاهيمهم العلمية عن تطور الإنسان، والاكتشافات التي تم التوصل إليها في العشرينيات والثلاثينيات. وتم تجاهل اكتشافات مهمة في آسيا وافريقيا لكونها لا تشابه الاكتشاف الإنكليزي لسبب بسيط جدا، ألا وهو أنها ليست اكتشافات من أوروبا

حصل اكتشاف إنسان البيلتداون على تقدير غير عادي من الناحيتين الأكاديمية والشعبية والسياسية، ولكن هذا كان يخفي مشكلة حقيقية، ألا وهي أن الاكتشاف برمته لم يكن سوى أكذوبة، أو بالاحرى تزوير، حيث قام ثلاثة من العلماء من المتحف البريطاني وجامعة أوكسفورد عام 1949 بفحص الأحافير بطريقة كيميائية واكتشفوا أن الأحافير مزورة، حيث اكتشفوا أن مواد كيميائية استعملت لجعلها تبدو قديمة، كما أن الجمجمة لرجل عاش قبل حوالي خمسين ألف عام، وليس قبل خمسمئة ألف عام كما قيل سابقا. أما الفك السفلي فيعود إلى أحد أنواع القردة، وعلى الأرجح قرد الأورانج أوتان توفي قبل عدة عقود. أما سن الناب الذي أثار دهشة العلماء، فكان لقرد وقد تم تغييره بالمبرد ليبدو مثل سن إنسان. وكان من السهل على من قام بالتزوير الحصول على فك القرد من أحد المحلات المختصة ببيع أجزاء الحيوانات. وتتابعت الفحوصات حيث استعملت تقنية الحمض النووي DNA التي كشفت أن الجمجمة في الحقيقة لا تعود إلى شخص واحد، بل اثنين أو ثلاثة أشخاص، وأن الأجزاء المختلفة منها تم اختيارها بسبب سماكتها، ثم تم تعديلها كي تندمج في جمجمة واحدة. واكتشف العلماء كذلك أن الأسنان في الفك العلوي للجمجمة كانت قد ثبتت بمادة يستعملها أطباء الأسنان، وأن اللون البني الضارب إلى الحمرة للأحافير كان بسبب مواد كيميائية، تم استعمالها لهذا الغرض. واكتشفوا أيضا أن حصى قد أدخلت في العظام كي تكون أثقل، حيث أن عظام الأحافير أكثر وزنا من العظام الجديدة

كان لهذه الأكذوبة أثر سلبي كبير على دراسة تطور الإنسان، حيث أخرته بسبب عدم توافقها مع الاكتشافات الحقيقية، التي اعتبرت عديمة الأهمية. وكان أحد الاستنتاجات التي تم التوصل إليها بسببها أن الذكاء عند الإنسان قد تطور في مرحلة مبكرة، وقد تم التأكد من عدم صحته

لكن لماذا صدق الجميع هذه الأكذوبة؟ الجواب هو حاجة الجميع الماسة لها، حيث أن كلاً من العلماء والمثقفين، وحتى السياسيين كان ينتظر بفارغ الصبر اكتشافا يضعه في القمة في مجاله، إذ أصبح العلماء الإنكليز من الأشهر في العالم، ونالت بريطانيا المكانة الأولى في مجال علم تطور الإنسان. أما علماء متحف التاريخ الطبيعي الذين كانوا المسؤولين عن دراسة الأحافير، فقد نالوا القابا من ملك بريطانيا عن دورهم في هذا الاكتشاف المزعوم، ولكن دوسن نفسه لم يحصل على أي لقب بسبب وفاته المبكرة. وأثارت قطعة العظم الشبيهة بمضرب لعبة الكركيت حفيظة هؤلاء العلماء، حيث أنها لم تكن سوى عظمة من فيل تم تحويرها بشكل ساذج بسكين، وبدت وكان المُزَوّر كان يسخر من الجميع

ما أن تم الكشف عن زيف اكتشاف إنسان بيلتداون في مجلة «تايم» الأمريكية عام 1953 حتى بدا البحث عن المذنب الذي قام بكل هذا التزوير، واحتال على الجميع وهدفه. وكان المتهم الأول تشارلز دوسن، الذي ادعى العثور على الأحافير أصلا، فقد اكتُشِفَ أنه قد قام بعدة عمليات تزوير سابقا لم تكتشف، حيث ادعى أنه اكتشف تماثيل وآثارا رومانية كانت جميعها مزورة. ولكن الغريب في الأمر أن دوسن لم يستفد من هذا التزوير ماليا، ولكنه استفاد من بروز اسمه بسبب هذا الاكتشاف، واعتباره عالما في هذا المجال، وقد يكون هذا أحد أهدافه على الأقل، إذ كان قد طلب الانضمام إلى الجمعية الملكية لمختصي الآثار بدون نجاح، على الرغم من كتابته لخمسين مقالا في مجال التاريخ. وتم ترشيحه للانضمام إلى تلك الجمعية بسبب هذا الاكتشاف فحسب، ولكنه لم ينجح في الانضمام بسبب وفاته المبكرة. ولكن الشكوك حامت كذلك حول ثلاثين شخصا آخرين، ومنهم بعض الذين ساعدوه في الحفريات التي قام بها مثل مدرس محلي للكيمياء، الذي ربما قام باستعمال المواد الكيميائية لإضفاء ذلك اللون البني. وكان من المتهمين أيضا رجل دين فرنسي شاب كان قد ساعد دوسن في الحفر، وأصبح في ما بعد من أشهر المراجع عن اللاهوت والفلسفة في القرن العشرين. وشملت الاتهامات وودورد، مدير قسم الجيولوجيا في متحف التاريخ الطبيعي، وكذلك أحد العاملين لديه. ولم يسلم من الاتهام آرثر كونان دويل، مؤلف روايات شرلوك هولمز، الذي كان من أشد المتحمسين لهذا الاكتشاف المزور، وعضوا في جمعية تاريخية محلية ضمت دوسن، وسكن في منطقة بيلتداون. وقد عرف عنه حقده على المؤرخين والعلماء بسبب سخريتهم العلنية منه، لإيمانه بالأشباح والأرواح، واعتماده على من يدعي الاتصال بالأرواح أحيانا. وقد كتب هذا المؤلف في رواية نشرها عام 1912، أي عام الاكتشاف المزور، أن المرء إن كان ذكيا، فسيستطيع تزوير العظام كتزوير الصورة الفوتوغرافية

لا يمكن تجاهل الأسئلة المهمة حول هذا التزوير، فلماذا لم يحاول العلماء فحص الأحافير عندما عُثِرَ عليها عام 1912؟ وما هو سبب ثقتهم الكاملة بهذا الاكتشاف؟ ولماذا تم منع بقية العلماء من مشاهدتها وفحصها؟ ولماذا انتظر العلماء الذين فحصوا الجمجمة إلى عام 1949 للكشف عن الحقيقة، وقد تغيرت الظروف العالمية، وتوفي كل من كانت له علاقة بالاكتشاف الأصلي؟ فهل كانت هناك مؤامرة ما لم يتم الإفصاح عنها حيث أن العلماء الذين تولوا مسؤولية الاكتشاف الأصلي كانوا بعض أشهر العلماء في إنكلترا، وعرّضوا بعملهم سمعتهم وسمعة الأوساط العلمية البريطانية إلى الخطر؟ ولماذا لم يفتح تحقيق جنائي رسمي حول هذا التزوير الذي بالتأكيد سبّب خجلا في الكثير من الأوساط؟ وهل كان دوسن من قام بالتزوير؟ أم شخصا وضع هذه الأحافير المزورة في طريقه كي يجدها؟ ولماذا لم يعتذر متحف التاريخ الطبيعي عما ادعاه علماؤه حول أهمية انسان بيلتداون عند اكتشافه؟ وهناك أسئلة كثيرة أخرى

كان لهذه الأكذوبة أثر سلبي كبير على دراسة تطور الإنسان، حيث أخرته بسبب عدم توافقها مع الاكتشافات الحقيقية، التي اعتبرت عديمة الأهمية. وكان أحد الاستنتاجات التي تم التوصل إليها بسببها أن الذكاء عند الإنسان قد تطور في مرحلة مبكرة، وقد تم التأكد من عدم صحته.