فاسيلي بارتولد.. المستشرق الروسي الذي أنصف الحضارة الإسلامية

أخبار البلد - لم يكن الروس، وهم في بلاد الثلج والصقيع المتوارية في شمال الكرة الأرضية، بعيدين في يوم من الأيام عن الإسلام والشعوب الإسلامية الملاصقة لهم في وسط آسيا أو القوقاز أو الأناضول وبلدان شرق أوروبا، بل إن العلاقات الروسية الإسلامية، عربية كانت أم غير عربية، تعود إلى أزمنة بعيدة تربو على الألف عام، ومنذ القرن العاشر الميلادي اعتنق الروس المسيحية الأرثوذكسية، وصاروا تابعين للكنيسة الشرقية في القسطنطينية عاصمة البيزنطيين أو "إسطنبول"، وأثمر هذا التحالف الجديد نوعا من العداء والبغض المشترك للإسلام؛ نظرا للحروب التي لم تكن تهدأ بين المسلمين منذ عصر النبوة والخلفاء الراشدين والأمويين ثم العباسيين ومَن تلاهم من جانب، وبين البيزنطيين في آسيا الصغرى وشرق أوروبا من جانب آخر



وظلّت العلاقات بين الفريقين تسير على هذا النحو، حتى توسّعت الإمبراطورية الروسية بدءا من القرن الخامس عشر والسادس عشر الميلادي، واستطاعت أن تضع يدها على مناطق التتار المسلمين في شمال بحر قزوين، ثم دخلت في صراعات مريرة مع الدولة العثمانية المجاورة في القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر الميلادي والتي خسر العثمانيون على إثرها مساحات شاسعة في بلاد القوقاز لصالح الروس، وحين قامت الحرب العالمية الأولى (1914-1918م)، وقبل أن تقوم الثورة البلشفية في روسيا لتحولها إلى الشيوعية سنة 1917م، كان الروس القياصرة قد اتخذوا جانب الدول المسيحية التي تحارب العثمانيين، مثل اليونان والجبل الأسود وأرمينيا، وساعدوهم بكل قوتهم[1]

حين هُزم العثمانيون في تلك الحرب سارع الروس للاستيلاء على بلدان وسط آسيا وشبه جزيرة القرم وسواحل البحر الأسود وتأكيد سيطرتهم على القوقاز، فأمعن الروس في احتلالهم لمناطق كانت ولا تزال أغلب شعوبها من المسلمين، ولعل هذه التطورات السياسية والتاريخية هي التي دفعت إلى تطوير حقل الدراسات الاستشراقية الروسية لينافس نظراءه من الأوروبيين والأميركان منذ فاتحة العصور الحديثة، وليخرج لنا هذا الحقل مجموعة من عمالقة المستشرقين الروس الذين اتخذوا -رغم العداء والاحتلال الروسي لمساحات شاسعة من العالم الإسلامي- طريقا علميا رصينا أثبت خطأ النظرة الأوروبية الاستعلائية لتاريخ وأنثروبولوجيا العالمين العربي والإسلامي



وكان على الرأس من هؤلاء المستشرق الكبير فاسيلي فلاديمير بارتولد، ذلك الرجل الذي ترك ما يناهز الأربعمئة كتاب ودراسة عن تاريخ الشعوب والأفكار والحضارة الإسلامية والعالم الإسلامي في حقب زمنية مختلفة من التاريخ الإسلامي، وكان له دور منصف في كشف غبار الكذب والادعاءات الأوروبية التي استمرت عقودا متطاولة. فمن هو بارتولد؟ وما الذي ميّزه في دراسة التاريخ الإسلامي؟ وكيف أنصف الحضارة الإسلامية مقارنة بالمستشرقين والمؤرخين والساسة الغربيين في عصره؟



فاسيلي فلاديمر بارتول(مواقع التواصل) وُلد فاسيلي فلاديمر بارتولد في مدينة سان بطرسبرج في أقصى الغرب الروسي سنة 1869م لأسرة تعود أصولها إلى الألمان الذين استوطنوا روسيا، وكانت أسرته على درجة كبيرة من الغنى والثراء ساعدته في دراساته وأسفاره، وقد استهوته دراسة اللغات وتاريخ الشعوب الشرقية، فتخرج في كلية اللغات الشرقية بجامعة بطرسبرج سنة 1891م، ثم قرر بعد التخرج السفر ليسمع على كبار المستشرقين في عصره، فاتجه صوب ألمانيا، وتمكّن من سماع محاضرات أساطين هذا اللون من الدراسات مثل أُوجست مولر ونولدكه وغيرهم، ثم قرر السفر إلى بعض بلدان وسط آسيا مثل تركستان ليقف بنفسه على تاريخ هذه الشعوب فيراها رأي العين[2]



عاد بارتولد إلى روسيا، وقرر استكمال دراساته العليا في جامعة بطرسبرج، وانكب على دراسة الماجستير في التاريخ الإسلامي الوسيط، واختار "تاريخ تركستان" موضوعا لبحثه، فأعجبت اللجنة التي نُصّبت لمناقشته ببحثه للغاية، وقررت منحه أعلى شهادة في جامعات روسيا عوض الماجستير، وفي عام 1892م نال لقب أستاذ محاضر، وانخرط في السلك الأكاديمي في جامعة بطرسبرج ومنها إلى أعلى المراتب؛ عضوا في المجمع الأكاديمي السوفيتي ليكون له الدور الأكبر في إصدار مجلة علمية مختصة بدراسة الإسلام وهي مجلة "عالم الإسلام" التي صار رئيس تحريرها[3]



في عام 1894م بدأ بارتولد بنشر مقالاته عن الإسلام، مثل "الإسلام المعاصر ومهماته"، و"العلم الإسلامي في مكة" التي نشرها في العام التالي، وبعد ذلك بست سنوات كاملة، عكف فيها على دراسة المصادر الإسلامية في التاريخ والفكر، ودون أن يتقيد بالإكليشهات أو الأحكام الجامدة التي كانت منتشرة بين المستشرقين الأوروبيين حينذاك عن الإسلام والعرب والأجواء الحارة التي أثّرت على تخلف هذه الشعوب، نشر بارتولد دراسته "الأفكار الثيوقراطية والسلطة المدينية في الدولة الإسلامية"

كشف بارتولد أن كرومر كان شديد التعصب تجاه الإسلام والشعوب الشرقية، وأنه لم يرد أن يتناول العوامل التي ساهمت في انتشار.....