الوطن يحترق

‏ عُرفت الجامعات على مر التاريخ بأنها منارات علم ومواطن النضج السياسي، ‏وعُرف طلبة الجامعات بأنهم بُناة المستقبل، وأنهم الطاقات المتحمسة التي هيجت ‏الشوارع في كل الأقطار للوقوف في وجه المستعمر الأجنبي للبلاد العربية ‏والإسلامية، وكانت الفتيل الذي لا تنطفئ منه النار، فكانت تُخرج أجيالا تحمل على ‏عاتقها المسؤولية الوطنية وتتفانى في سبيل رفعة الأمة وتنمية قدراتها، لتواكب ‏التطورات رغم ضيق ذات اليد والعوز والفقر. ‏
‏ واليوم فان هذه الجامعات تعتبر أن رؤيتها بناء جيل يحمل على عاتقه المسؤولية ‏الوطنية متسلحا بالعلم والأخلاق والفضيلة السوية في السلوك والفكر والمعتقد، وهذه ‏الرؤية لا تعدو أن تكون حلم لا يُحتمل تحققه، فالواقع يثبت لنا أن كثيرا من المشاكل ‏التي تثير حمية العصبية والعودة إلى الجاهلية الأولى تولد داخل حرم هذه الجامعات، ‏فأصبحت الجامعات بدل أن تُخرج كما الرعيل الأول حُماة الديار وبُناتها أصبحت تلم ‏بين كنفاتها وأسوارها من يسعى إلى خراب البلاد وتعكير صفو العباد. ‏
‏ طبعا ليست كل مشاكل الأردنيين تخرج من الجامعات، إلا ان أم المشاكل هي ‏التي دعاتها طلاب الجامعات، فهانحن وفي كل يوم نبدأ تصفح الأخبار بمشاجرة ‏وننهي التصفح بمشاجرة، فحرق وتكسير وضرب وإطلاق نار وقتل وسب وشتم، ‏فهل بقي بعد هذا فساد.‏
‏ وتعظم المصيبة عندما تأخذنا الشفقة بمجرم، ونريد أن نقتص من حاميتنا الأمنية ‏فلا نريد من الأمن القيام بواجبه وضبط اللصوص والمجرمين وإيداعهم السجون، ‏فخطأ رجل الأمن لا يغتفر ولا يحل بالسبل السلمية، وإنما بهياج الشارع، والتعبير ‏عن الغضب بتكسير الممتلكات العامة، وحرق سيارات الأمن وإطلاق النار عليهم، ‏وكأننا نريد أن نوصل لهم رسالة، إنكم تحتمون منا بنا ولا سيادة للقانون إلا بما نسمح ‏لكم نحن ونرتضي، فمتى شعرتم بأنكم حماة الوطن، أثبتنا لكم أنكم غرمائه، وان ‏اللصوص والمجرمين عصي عليكم النيل منهم، فالعشائرية اليوم أصبحت في عرفنا ‏انصر ابن عشيرتك فرجل الأمن من عشيرة أخرى يريد كسر انفك وتنكيس ‏عشيرتك.‏
‏ أسفي علينا إن وصلنا إلى هذا المستوى من التعامل مع قضايانا الأمنية، فنحن في ‏الأردن ما هو رأس مالنا إن لم يكن الأمن اكبر النعم التي ننعم بها، فلا ثروات نفطية ‏ولا ممرات تجارية ولا بيئة زراعية ولا رؤية إصلاحية نمتلك، فرأس مالنا في هذا ‏البلد الآمن ولا شيء غير الأمن فإنسان هذا البلد يعيش على الكفاف ويصبر ويستدين ‏ويدرس أبنائه ويبني مسكن ويصبر ويداعب الحياة ويتحايل عليها مادام ينعم بالأمن ‏أما إذا فقدنا الأمن فلا نملك بعده مقومات الحياة.‏
‏ فبلادنا بمشاكلنا وعصبيتنا العشائرية تحترق، ونحن ننظر لا بل نحن من يحرق ‏بلاده ويقف مبتسما ولسان حاله يقول لقد انتصرت، أي نصر هذا الذي أتى على ‏مقدرات البلاد، فاليوم الشعب يحرق ما بقي من مقدرات البلاد التي عجزت عن ‏اقتنائها والتسلط عليها أيدي الفاسدين، ممن اكتسبوا أو اكسبوا الغير منفعة مادية أو ‏معنوية بغير وجه حق، خلال ممارستهم مهام تسيير العمل، أو خلال فترة سيطرتهم ‏على القرار المسير للعمل.‏
‏ فبأي لسان سنقف مطالبين بمكافحة الفساد إذا نحن أنفسنا ابرز المدافعين عن ‏الفاسدين، لا بل نحن حماة الفاسدين من أن يمثلوا أمام القضاء وينفذ الحكم عليهم، نعم ‏من الممكن أن يتهاون في خطر هذا السلوك إن كان فرديا، أما إذا كان سيصل لحد ‏الظاهرة الطبيعية، ويكون من سمات وميزات المجتمع فلابد من إيجاد حلول جذرية ‏قبل أن يستشري الفساد ونجد أنفسنا في دولة مافيا عشائرية عمياء، تعيد البلاد ‏لتاريخها قبل الحكم الهاشمي وتوحد العشائر تحت لوائهم.‏

kayedrkibat@gmail.com