من الأبيض إلى الأسود والعكس أيضا

أخبار البلد-

 

التحولات التي تطرأ على الشخصية الإنسانية في سياق التطور وتراكم الخبرة والتجربة تبدو مفهومة تماما، فنحن نكتشف كل يوم شيئا جديدا، وأفكارنا تتطور وتتغير، ويفترض ان تصبح أكثر نضجا، لكن غير المفهوم هو ان ننقلب على أفكارنا ومواقفنا، او أن نستقبل تماما مما كنا نؤمن به من مبادئ،والأخطر من ذلك أن نتحول إلى أعداء الداء لمن كنا نتشارك معهم في هذه الأفكار او المواقف.

في إطار السياسة، يخرج البعض من حزب إلى آخر، لكن أداءه العام يظل محكوما بقواعد الديمقراطية من خلال التنافس على برامج الخدمة التي يقدمها للناس دون أن يثير الأمر حرجا او غضبا، لا من طرف الشخص الذي خرج ولا من قبل الحزب الذي كان فيه، هذا بالطبع في البلدان التي تتمتع بعافية الديمقراطية،أما في بلداننا،فالخروج له معنى واحد وهو الانشقاق، وهو لا يخضع بالطبع للقواعد الديمقراطية المألوفة وإنما أشبه ما يكون بإشهار للطلاق بلا إحسان، ولك أن تتصور ما يحدث بعد ذلك من تحولات، حيث يتنكر كل طرف للآخر، ويبدأ بشيطنته وكشف عيوبه ويتنكر لكل ما كان يؤمن به من مبادئ مشتركة، حتى كأنها مجرد قميص لبسه وفجأة قرر ان يخلعه.

تعرفون مثلي أشخاصا امضوا عقودا طويلة من أعمارهم في حزب او جماعة او تنظيم ..الخ، وفي لحظة ما دب فيها الخلاف بينهم وبين قياداتهم خرجوا او أقيلوا،وهذا مفهوم في سياق (تعليمات الحزب) او عقود البيعة التي ما تزال تطبق على رقاب العاملين في الشأن العام، وتحرمهم أحيانا من العمل والإبداع والحركة الطبيعية القائمة أصلا على التنوع والاجتهاد والحرية،ما علينا،لكن ما يصدمنا هنا هو ان يتحول المنشقون هؤلاء إلى أعداء للحركات التي تربوا وتعلموا فيها،بعضهم يتوجه فورا الى إصدار كتب تكشف أسوأ ما يمكن ان تتخيله داخل هذه التنظيمات، وبعضهم ينحاز بشكل سافر إلى الخصوم السياسيين وينقلب على كل ما كان يؤمن به من مبادئ، ليس فقط فيما يتعلق بالموقف السياسي،وإنما بالموقف من الحرية والكرامة والعدالة التي لا يكاد يختلف عليها احد.

ليس المقصود الحكم على هؤلاء او محاسبتهم، فهذه المهمة لا علاقة لنا بها،وإنما المقصود فهم هذه التحولات التي تصيب الشخصية الانسانية، وخاصة اذا كانت تمارس عملا عاما او محسوبة على الشأن العام،ينطبق هذا على السياسي والديني وغيرهما ايضا،ولعل ما يفعله الديني تحديدا يبدو لافتا وصادما معا،لان الانطباع الذي يتركه لدى الآخرين ينسحب على الدين على اعتبار ان الشخص كان يمثل قيما تتسامى على المصالح، ومواقف متصلة بثوابت الدين وقيمه العالية،وهنا يبدو الانشقاق وما يترتب عليه من تحولات عدائية محملا باعتبارات وشكوك وفهومات أخرى، وهي أحيانا لا تليق بمن يتبوأ مثل هذه المواقع التي وصل من خلالها الى الناس، ثم تبرأ منها حين خرج او استقال منها.

اعرف ان الشخصية الانسانية مطبوعة على الضعف والتحول وعلى النقص أيضا،فالكمال الإنساني متعلق بالأنبياء فقط،ولكن يبقى ان كل هذا لا يبرر ان يتخلى الإنسان عن مبادئه وقيمة، ولا ان يبيع ضميره، ولا ان يتحول في مواقفه من الأبيض الى الأسود او العكس، واذا كان التحول الفكري والسياسي مقبولا في دائرة التنوع والاجتهاد وضمن (الإحسان) وعدم نسيان الفضل فيما بين الأطراف التي ارتبطت ببعضها في مرحلة ما، فانه يبدو غير مفهوم وغير مقبول حين يشكل انقلابا على المواقف والقيم وحين يتحول إلى عداء وشر مستطير.