مدرسة ذرّ الرماد في العيون!
اخبار البلد -
في بادرة هي الأولى من نوعها، أرسلت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، مبعوثها إلى القرن الأفريقي جيفري فيلتمان، في جولة زار خلالها القاهرة والخرطوم وأديس أبابا.
كانت الجولة في الشهر قبل الماضي، وكانت جولته هي أول تدخل مباشر من جانب إدارة بايدن في قضية سد النهضة، وكان قد جاء يسمع من العواصم الثلاث ما قد يدعو إدارة بلاده إلى التدخل في القضية، بما يجعلها تسعى بجد إلى طرح حل عادل وشامل فيها، وبما يجنب هذه المنطقة المهمة من العالم ما يهدد السلم والأمن على امتداد أركانها.
ومن قبل كان تدخل الإدارة السابقة أقوى من الإدارة الحالية، إذ كانت قد دعت الأطراف الثلاثة إلى جولة من المفاوضات في واشنطن، وكان تدخلها يوشك أن يؤدي إلى توقيع اتفاق نهائي، لولا أن الطرف الإثيوبي غاب عن جلسة التوقيع من دون مقدمات!
وكانت الآمال العريضة قد رافقت جولة فيلتمان، لأن التدخل الأميركي في أي قضية يختلف بالضرورة عن تدخل أي دولة أخرى، ولأنها قادرة على الوصول بقضية مثل قضية السد إلى حلها العادل بين أطرافها لو أرادت، فإمكاناتها تسعفها فيما تريد إنجازه بين أي طرفين يتنازعان في العالم، ومسؤوليتها الدولية تفرض عليها ألا تتباطأ في ممارسة هذه المسؤولية، كما أن عدم قدرتها على تقديم حل يشكك لا بد في مركزها الدولي.
ولكن هذه الآمال العريضة لم تجد ما يتجاوب معها على الأرض في مرحلة ما بعد انتهاء الجولة، لأنك تستطيع الآن أن تقول إن فيلتمان ذهب كما جاء، ولأنه ما كاد ينتهي من جولته حتى غابت أخباره، رغم ما قيل في أثناء تنقله بين العواصم الثلاث عن حنكته السياسية، وعن أنه يتكلم العربية كأهلها، وعن أنه محترف في قضايا المنطقة التي شهدت جانباً من مسيرته الدبلوماسية!
وإذا كان مهماً في هذا الملف أن يتحدث فيلتمان العربية، وإذا كان ضرورياً أن يكون مُحنكاً كدبلوماسي خدم في المنطقة من قبل، فالأهم جرياً على نظرية القط والفأر الصينية الشهيرة، أن يحل المشكلة التي جاء من أجلها، وأن يصل فيها إلى نتيجة عملية نراها ونلمسها.
وفيما بعد الجولة بقيت القضية كما كانت قبلها، ولم يحدث فيها تقدم تلحظه العين على أي مستوى؛ خصوصاً مستوى الطرف الإثيوبي الذي يتعامل مع النهر على أنه نهر إثيوبي، لا على أنه نهر عابر للحدود يحكم سريان الماء فيه قانون الأنهار العابرة للحدود الصادر عن الأمم المتحدة.
وفي مرحلة ما بعد الجولة، قيل في واشنطن إن مبعوثها سيعود في جولة جديدة، وإن ذلك سيكون قريباً بهدف استكمال جهده في جولته السابقة، لكن شيئاً من هذا لم يحدث، وصارت جولته الأولى جولة يتيمة، لا خطوة أخرى بعدها!
وفي هذه اللحظة الحالية من مراحل الصراع على ماء النهر، تبدو جولة فيلتمان بلا أثر حي، ويبدو كأنه قد جاء في جولته ذراً للرماد في العيون... لا أكثر من ذلك ولا أقل!
وإذا كان هو، وكما يتراءى للمراقبين، قد انتسب بجولته إلى مدرسة ذر الرماد في العيون في القضايا الدولية، فسرعان ما التحق بها في مرحلة تالية، موسى فقي، رئيس المفوضية الأفريقية، التي هي أقوى أجهزة الاتحاد الأفريقي، والتي تملك من أدوات الحركة السياسية على الأرض ووسائل تنفيذ ما تراه من خطوات، ما لا يملكه الاتحاد نفسه كجهاز يتحرك لوأد المشكلات مسبقاً بين دول القارة السمراء، أو هكذا يجب أن يكون!
لقد سمعنا فقي يتحدث عن استعداده للتدخل في القضية، وكان هذا في حد ذاته من دواعي الدهشة، لأن مفوضية بهذا المسمى لا مهمة لها في الحقيقة، سوى المبادرة بالتدخل قبل أن تتحول أي قضية أفريقية من مشكلة إلى معضلة، وقبل أن تتدحرج المشكلة فتكبر مثل كرة الثلج، فليست المفوضية في حاجة إلى دعوة تصل من خلالها إلى حل في أي قضية من قضايا القارة.
وبمثل ما تحرك فيلتمان، فإن فقي بدأ يتحدث بالطريقة نفسها، وإلا ما كان قد انتظر دعوة للتدخل، فقضية في حجم قضية السد لا تحتمل انتظاراً من جانبه بطبيعتها، والمفوضية الأوروبية على الجانب الآخر من البحر المتوسط لا تنتظر دعوة إلى التحرك الفاعل على مستوى دول الاتحاد، فهي لا تكاد تلمح بداية لمشكلة على خريطة الاتحاد، حتى تسارع وتبادر، وحتى تذهب إلى حيث المشكلة، ولا تنتظر حتى تأتيها المشكلة تدق عليها الباب!
حدث هذا قبل سنين عندما كانت اليونان على وشك الإفلاس، وحدث هذه الأيام عندما قادت المفوضية معركة كبيرة بالنيابة عن أوروبا كلها مع بريطانيا، حول قضية لقاح أسترازينيكا، ولو انتظرت في الحالتين وهما مجرد مثالين، لكانت اليونان قد أفلست، ولكانت القارة العجوز قد عانت من فيروس كورونا أكثر مما هو حاصل أمام أعيننا، في مشهد لا تخفى تفاصيله على أحد.
ولو تصرف السيد فقي في موضوع السد، كما تصرفت السيدة أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية في مقرها في بروكسل، ما كانت القضية في السد قد وصلت إلى هذه المرحلة الصعبة من مراحل تدحرجها المتواصل، وما كان البيت الأفريقي في حاجة إلى مبعوث أميركي يأتي باحثاً عن حل لمشكلاته! ولم يكن فقي هو رفيق الدرب الوحيد مع جيفري فيلتمان، في مدرسة ذر الرماد في العيون، على طريق السد من القاهرة إلى أديس أبابا مروراً بالخرطوم!
إن معهما يقف بالدرجة نفسها المسيو نيكولا دي ريفيير، مندوب فرنسا لدى الأمم المتحدة، الذي وقف قبل أيام يعلن أن مجلس الأمن لا يملك الكثير الذي يستطيع أن يقدمه في قضية السد، ولا يملك الخبرات الفنية الكافية التي تجعله يفصل بين الدول الثلاث في حصص الماء، وأن المجلس قد يعقد اجتماعاً حول القضية استجابة لدعوة من القاهرة والخرطوم معا.
وقد تقرر أن يكون الاجتماع اليوم، ومع ذلك، فطريقة حديث ريفيير عنه قبل تحديد موعده، تقول إنه اجتماع منعقد على طريقة ذر الرماد في العيون نفسها، لأنه ليس من المتصور أن يتابع المجلس تطورات هذه القضية الخطيرة يوماً بعد يوم، ثم يقف متفرجاً، فإذا تلقى دعوة عاجلة للانعقاد من العاصمتين المعنيتين، تحدث بلهجة الاحتمالية في الانعقاد، وتكلم عن خبرات فنية غير كافية للفصل في الموضوع. وكأن المجلس يستطيع أن يملك خبرات في تحديد مدى ما لدى العراق من سلاح نووي، مع ما تبين فيما بعد من زيف تلك الخبرات، ثم لا يجد هو نفسه الطريقة التي يستطيع بها امتلاك خبرات يتمكن بها من حفظ السلام والأمن الدوليين على نحو ما يقول الميثاق.
إن مصر والسودان يتطلعان إلى جلسة المجلس في هذا النهار، ومنتهى أملهما ألا يكون الانعقاد من نوعية جولة فيلتمان، ولا من نوعية حديث فقي الذي لا يزال ينتظر الدعوة. ومع القاهرة والخرطوم تقف كل العواصم المحبة للسلام، ومنتهى أملها هي الأخرى ألا يكون انعقاد المجلس ذراً للرماد في العيون، فهذه مدرسة أرهقت العالم ولا تزال ترهقه.
هذه مدرسة أرهقت العالم في قضاياه التي لا تحتمل الانتظار، لأنها مدرسة أقرب في تعاملها مع القضايا الدولية الخطرة إلى مسدسات الصوت، التي تطلق فرقعة في الهواء ولا تترك أثراً على الأرض!