الحكومة التي تحتكر المنصات

أخبار البلد-

 
في الوقت الذي يتسابق الجميع للحديث عن الاصلاح وضرورته لإنقاذ الدولة من مشاكلها المتراكمة، حيث حُمّى تشكيل اللجان وورش النقاش من شتى الانواع، وبما أن أولئك اكتشفوا فجأةً أن الحزبية والأحزاب هما المدخل الأول والوحيد للوصول إلى الغاية المنشودة وهي إصلاح الحال لكن العجيب أن أغلب أولئك كانوا قُبيل ذلك بقليل يرونها - أي الحزبية - جزءاً من الخيانة الكبرى، المهم في الأمر هو شيء آخر مختلف، حيث اعتاد العالم على أن الدول التي تتجه للإصلاح بشكل حقيقي تقوم ببعض الخطوات الاستباقية تؤكد أن لديها الرغبة الجادة في سلوك هذا الطريق كجزء من حُسن النية، وواحدة من أهم إجراءات كسب الثقة هذه إطلاق حرية الرأي، والسماح للرأي الأخر بالولوج في الاعلام الخاص والرسمي بدون أي ضوابط أو قيود وأكاد أجزم بأن هذه واحدة من أهم الخطوات، لأن الحزبية التي تُجهد الحكومة نفسها بأن تجعلها أهم عناوين المرحلة المقبلة تعتمد في أساسها على اختلاف الرؤى وتعددها بل وتناقضها في أحيان كثيرة.

أما واقع الحال لدينا فمختلف تماماً، ففي البلد نوعين من هذه الوسائل رسمية وأهلية، يُفترض منهما أنا ينقلا الحراك الاجتماعي بكل تبايناته بغض النظر توافقه مع وجهة النظر الرسمية من عدمه، هكذا يُفترض، أما على ارض الواقع فقد كان الرأي واحد في أغلب الأحيان إلا في بعض المراحل المشمشية حين يمُن الله على البلد بمسؤول يؤمن بفكرة التنفيس عن الناس كوسيلة لعدم الدخول في مرحلة أعقد من الاحتقان الاجتماعي، لكن هذه محدودة بشكل كبير ولم تتجاوز في مستواها حدود النزوة، فقد كان الطابع الرسمي العام يرفض الرأي الأخر وفي نفس الوقت يتندر ويتأفف من حصول الناس على المعلومات من وسائل إعلام خارجية، أو منصات إعلام لمعارضين على وسائل التواصل الاجتماعي، وهؤلاء نافسوا الإعلام الرسمي في مجالي إعطاء المعلومة وتكوين الرأي والموقف على مستوى المتجمع، إذا استطاعوا أعني النشطاء المعارضون أن يضعوا الرواية الرسمية وراء إصبعها والتي بدت هشة مدحوضة في أكثر من موقف وقضية وطنية مصيرية، للدرجة التي حدت بالحكومة إلى اعتماد هذه المنصات من خلال التسريب إما لمواقع أجنبية أو لإحدى تلك المنصات الإلكترونية المعارضة في محاولة لإيجاد رواية تخصها.

لكن السؤال الأهم لماذا يغط الإعلام الوطني في سبات عميق عندما يتعلق الأمر بقضية تحتاج الى نقاش موسع بين رؤى متباينة، ويختفي وراء عبارة وجهات النظر الإيجابية وهي التي تعني تماماً تبني وجهة نظر الحكومة بغض النظر عن ماهيتها وهي وجهة النظر نفسها التي ستأتي حكومة أخرى بعد حين لتنسفها من أساسها وتعتبرها سبب البلاء كله، هذا مع العلم أن الدولة أنشأت منذ وقت ليس بالبعيد محطة اعلامية مهمة (المملكة) كانت الغاية منها استقطاب العيون والأذان المهاجرة الى المحطات الخارجية في محاولة رسم ملامح لرواية وطنية مستقلة عن الحكومات، ولا انكر انها نجحت في استقطاب الكثير من الآراء المهمة في فترة قصيرة وشكلت حالة مضيئة لفترة محدودة، إلى أن ضاق صدر الحكومات بها، فجردتها من فرصتها المهمة في أن تكون منبراً للنقاش الحر، وحصرتها في إطار مفهومها في إطار وجهة النظر الإيجابية، فحرمت بذلك المواطن الأردني من فرصة نادرة ليتابع احداث بلده من بلده.

لقد غابت هذه القناة تحت ضغط الحكومة عن ثلاث قضايا مصيرية وضُيِق عليها في حدود رأي الحكومة، ففي بداية جائحة كورونا كانت تفسح المجال امام وجهات النظر المؤيدة والرافضة لقرارات الحكومة باتت الآن وبأمر من الحكومة وربما وزراء الصحة مباشرة تقتصر على وجهة النظر الإيجابية فقط وفقط بل والأدهى من ذلك أنها ولكي تعوض الفراغ الناتج عن تغييب الكفاءات الوطنية، باتت تستضيف من تقول عنهم خبراء من الخارج يفتقرون إلى أبسط بدهيات علم الأوبئة اللهم إلا البعض منهم، وإعطائهم نفس المساحة التي كان يُفترض أن يشغلها الخبير الأردني، وهي بذلك ساهمت في حرمان الكفاءات الوطنية وأظهرت الاردن كبلد فقير وهش علمياً ولا يمتلك القدرة على إنتاج رأي علمي محايد، فقد اقتصرت الظهورات على أطباء يمثلوا وجهة النظر الرسمية ولا يحيدون عنها، ودليلي على ذلك غياب قامات علمية أردنية لها مكانتها على مستوى الوطن العربي منذ اربعة أشهر، واسترجعوا بيانات القناة (المملكة) خلال تلك الفترة فلا ضير أن يُحرم المجتمع من رأي تلك الكفاءات الوطنية كي يرضى صاحب الدولة وصاحب المعالي.

القضية الأخرى قضية الفتنة، وهي التي مست ضمير كل أردني ووجدانه ومستقبله ايضاً، فقد تسابق الناس على كل وسائل الإعلام للحصول على المعلومة والخبر اليقين، لكن ضالتهم هذه لم يحصلوا عليها في القنوات الرسمية وغير الرسمية، فقد غابت تماماً وألقت الخبر على الناس كأنه خبر من قارةً أخرى وكأن الأمر لا يتعلق بمصيرهم، وتسابقت تلك الشاشات الرسمية لاستضافة مسؤولين سابقين وحاليين ألقوا شتى أنواع الخطابات والمواعظ التي ملّها الناس في الحال وذهبوا طريقهم المعتاد في الحصول على المعلومة والرأي، وهنا أيضاً فشلت الحكومة وإعلامها في ري ضمأ الناس وتشوقهم للحقيقة، ففي الوقت الذي كان الأردني يلهث خلف باحث غوغل للوصول لأي معلومة كانت المنصات الرسمية تناقش قضايا تتعلق فقط ببقاء الحكومة وترضي فريقها.

القضية الثالثة موضوع الاصلاح ولجنة إصلاح المنظومة السياسية وهنا الطامة الكبرى إذ يفترض أن يُفتح الفضاء العام للنقاش الحرّ فيما يتعلق بهذا الأمر ويتم تناوله من جميع الجوانب، حيث قوبلت اللجنة بمعارضةً شديدة ونقداً واسعاً لطريقة تشكيلها وأجندتها ورئاستها وأعضائها المشاركون فيها، كل هذا لم يظهر على أي من القنوات الرسمية وغير الرسمية فقد فرضت الحكومة رأيها المتعلق باللجنة في كل الاتجاهات الرسمية وغير الرسمية، (وجهات النظر الإيجابية اي وجهة نظر الحكومة)، فاقتصرت القنوات في نقاش الموضوع على أعضاء اللجنة وغابت تماماً وجهة النظر المعارضة، الأمر الذي رسخ القناعة بأن الحكومة غير جادة ابداً في هذا الموضوع وإنما فقط تمارس تكتيكاً لحرق الوقت.

ثلاث قضايا مفصلية بثلاث إخفاقات إعلامية أثبتت أننا لم نتعلم الدرس الأساسي بأن الحكومة هي جزء من البلد وليس كل البلد، رأيها قابل للأخذ والرد ولا يجوز أن تفرضه بقوة أدواتها على المجتمع، والمعارضة حق من حقوق المواطنين وليس مِنة من أحد، ووسائل الاعلام هي ملك للدولة وليس للحكومة، ومثلما للحكومة الحق أن تتخذ من تلك الوسائط وسيلة لإيصال قراراتها وتوجهاتها للمجتمع أيضاً من حق من يعارضون الحكومة أن يوصلوا رأيهم وقناعاتهم للمجتمع من خلال تلك الوسائط، أما أن تفرض الحكومة سطوتها وإرادتها وتصادر الرأي الآخر وتوصد أمامه الأبواب فهذا يتفق مع منطق الدُول السلطوية التي لا قيمة فيها للإنسان فما بالك برأيه، لأجل ذلك علينا التوقف عن خداع أنفسنا، فالإصلاح يبدأ من نقطة واضحة هي حرية الرأي والتعبير والذي تُعتبر بموجبه وسائل الإعلام مملوكة للدولة وليس للحكومة وإلا ستفقد القيمة والغاية من وجودها، لكن للأسف نزق الحكومة وتشبثها برأيها أجهض فكرة أردنية طالما حَلُم بها كل محب، وهي وجود منصة إعلامية وطنية تُعنى فقط بالأردن ولا يكون للحكومات هيمنةً عليها، لكن للأسف هذا الوهم تبدد عند أول مواجهة حقيقية مع الواقع.