أشياء تضيعها رقمنة الصحف..!
أخبارالبلد - كانت رقمنة الصحف واحداً من المتغيّرات الحتمية التي نشأت عن انتشار شبكة الإنترنت وظهور ما تُسمى "وسائل الإعلام الجديدة”، حيث لم تعد الصحيفة الورقية مصدراً رئيساً للحصول على الأخبار. وتحاول الصحف التكيُّف مع هذا الواقع كمسألة وجودية، باعتبار أن تغيُّر أنماط استهلاك المادة الصحفية يترك النسخة الورقية بقليل من المُشترين، ويهدِّد جدياً بموتها.
بطبيعة الحال، تُكتب مجلدات عن التفاعلات المختلفة لعملية التحول المربكة، وتناقَش ما تُسمى "الفرص والتحديات” التي تعرضها رقمنة الصحف. وبالإجمال، يُنظر إلى "الثورة الرقمية” على أنها تطور محمود في الخبرة البشرية، مع أنه ما يزال من الصعب قليلاً تمييز المكاسب والخسائر في القطاع الصحفي، وخاصة الصحف الورقية. لكنّ هناك بعض الملامح التي تستشعرها الأجيال التي شهدت على التحول من الصحيفة الورقية إلى الصحيفة الإلكترونية.
هناك بالتأكيد الجانب "الطقوسي”: مجالسة الصحيفة في الصباح ومطالعتها مع فنجان القهوة وفيروز في الشرفة، أو افتتاح النهار بها في المكتب. ولم يكن من النادر رؤية الناس يتأبطون صحفهم وهم ذاهبون إلى العمل أو عائدون منه، مع ما قد يحكيه ذلك عن صاحب الجريدة الذي يغلب أن يكون مطَّلعاً جيداً وعارفاً بما يحدث حوله وفي العالم. وقد أصبحت رؤية هؤلاء الأشخاص الذين تستكمل الجريدة قيافتهم الصباحية نادرة الآن حقاً.
لكنّ هناك ما هو أكثر من ذلك في انسحاب الجريدة الورقية في الحقيقة: لقد غيّرت رقمنة الصحف طريقة استهلاك المحتوى الصحفي. وأزعم أن الرقمنة ضيعت الدور التثقيفي الشامل الذي كانت تؤديه الجريدة. وفي السابق، كنا نشتري صحيفة "سمينة” نسبياً، بالمعنى الفيزيائي والمعرفي. وعندما يشتري القارئ الصحيفة ويشرع في تصفحها، فإنه يغلب أن يقرأ معظم المحتوى إذا توفر له الوقت. وكان لا بُد أن تضم الصحيفة محتوى ثقافياً معقولاً. كنتَ تعرف عن الإصدارات الجديدة، وتقرأ في القصة، والشعر، والمراجعات النقدية للكتب وعروض النظرية الأدبية، والترجمات العالمية المختارة للضروب الأدبية والفكر والفلسفة.
كانت الصحيفة في السابق هي طريق الأدباء والنقاد إلى قرائهم. وكان يدير الأقسام الثقافية أدباء كبار يستقطبون الكتاب ويقدّرون قيمة المحتوى. وبذلك كانت الصحيفة هي المصدر التثقيفي الأول والأقرب، والدليل المرشِدُ إلى الكتاب. ويضيء الباحث جاريث بريث، من المعهد الملكي للشؤون الدولية (تشاتام هاوس) هذا البُعد في دراسته المعنونة "فرص وتحديات الصحافة في العصر الرقمي.. وجهات نظر” المنشورة في العام 2015.
يذكّر الباحث بأن المستهلكين في الماضي لم يكونوا يدفعون للحصول على الأخبار وحدها. ولذلك تعاملت الصحف تقليدياً مع هذا التحدي من خلال استكمال الأخبار بمختلف أنواع السلع المعرفية. وفي الطريق إلى مطالعة موضوعهم المفضل، كان القراء يمرون ببقية المحتوى ويمكن كثيراً أن يستريحوا عنده. أما الآن، فإن القراء يصلون إلى أقسامهم المفضلة عبر الإنترنت متجاوزين بسهولة كل ما عداها.
في الموقع الإلكتروني للصحيفة، يركز مديروه الانتباه على السلعة القريبة: الأخبار العاجلة، وربما بعض القطع الخفيفة أو المقالات السياسية المختارة. وبذلك، يقودك الموقع إلى حيث يريدك أن تذهب ولا يترك لك الحرية التي أتاحتها الصحيفة الورقية بعرضها المحتوى دفعة واحدة. وغني عن البيان أن الصحف الإلكترونية اختصرت المحتوى الثقافي –وأجبرت الصحف الورقية المطبوعة على اختصاره أيضاً لتقليل تكاليف الورق والطباعة ومكافآت الكُتّاب- نتيجة لسطو الرقمنة على عائدات الصحف الورقية. وإذا احتفظت بعض الصحف الورقية بالقطع "الثقيلة”، عميقة المحتوى، فلنخبة لا تني تقل من قراء الصحف المطبوعة. وسوف يبحث عنها مرتادو الموقع الإلكتروني المهتمون فقط، بينما لن يجدها المتصفح غير المهتم معروضة مباشرة في الواجهة.
يغري كل هذا مالكي الصحف الورقية، ومديري المواقع الإلكترونية للصحف أيضاً، بالتركيز على المحتوى المباشر والآني واسع الاستهلاك. ويقود هذا الاتجاه إلى حل غير عادل لسؤال: هل أهبط إلى المستوى السائد أم أتعب على رفع سوية هذا السائد وأرتقي بالثقافة والذائقة. وإذا حاولت الصحف حلّ السؤال بغير الطريقة المتداولة الآن، فسوف يتطلب ذلك قدراً كبيراً من التضحية والتكاليف ومعاندة التيار وقدرة الإغواء. وإذا كان ثمة من يفكر استراتيجياً، فمن الجدير استعادة تقاليد الصحف وأدوارها التثقيفية الشاملة من النوع السهل الذي أصبح الآن ممتنعاً. وفي المشروعات الوطنية الجادة، لن يكون مثل هذا الاستثمار خاسراً إذا ما أدير بطريقة مستنيرة.