إلى متى نستمر في اللهاث وراء الأزمات؟

أخبار البلد-

 
أينما تتجه سيقابلك اناس متعبون متذمرون، الشكوى هي عنوان أحاديثهم والضجر هو السمة العامة لملامح وجوههم، فالفقير يشكو من ضيق الحال والغني يتذمر من قلة الربح، ملامح الرضى تكاد تختفي تماماً أو هي كذلك، هكذا هو الحال في الأردن هذه الأيام، فالأزمات تحولت إلى حدث معاش بشكل متلاحق، لا تكاد تنتهي أزمة إلا وتبعتها أخرى أشد وطأةً وأعمق أثراً.

ففي السنة والنصف الأخيرة؛ لا يكاد يمر شهر بدون ضجيج أزمةً هنا أو مأزق هناك لدرجة أوصلت الناس الى ما يشبه القنوط، وفي هذا المشهد أصبح الجميع يتحدث عن اصلاح الحال، فالدولة حولت محور أحاديثها وبياناتها تجاه هذا الهدف، لكن على طريقتها والتي لا تزال تستعصي على الفهم من قبل أي متابع، والنَّاس أيضاً اصبحوا مغرمين بهذه الكلمة مع تعدد مفاهيما بالنسبة لكل منهم، فالجميع يريدها على مقاس مصالحه لا غير، فالبعض يراه قانون انتخاب، والبعض يراه اقتصاد، وآخرون يرونه جغرافيا، وغيرهم يجده ديمغرافيا، وصغّره البعض لحدود المكاسب على شاكلة الوظائف والخدمات العامة، فكل أولئك أرادوه على مقاسهم لذلك لم ولن يتحقق لأي منهم.

لكن ما الذي حدث كي يتدحرج الوضع الى هذا السوء؟

لنروي الحكاية؛ ففي التاريخ أحياناً إجابات على كثير من الأسئلة المحيرة..

نشأت الدولة الأردنية من رحم معادلة معقدة هيمن فيها الإقليم ومعادلاته على لحظة ولادتهِ كدولة ولا داعي لسرد التفاصيل المعروفة، في الحدود التي حوت هذا المكون السياسي الوليد هيمنت على نمط الحالة السياسية لعقود تالية، فهو فقير ومحاط بالأصدقاء الأعداء، لأغلبهم مطامع ولكن لجّلهم مخاوف من فقدان هذه الجغرافيا الوليدة تماسكها وانهيارها، مما سيؤدي في النهاية لإلحاق الضرر بهم، لذلك عمدوا إلى الدعم المحدود بشرط توازن المصالح لكل طرف، ساعد في ذلك حالة الاستقطاب الدولي والحرب الباردة الذي مكن قادة البلد من استثمار هذا الوضع بما يعود بالمنافع على الدولة التي بدأت تحبو للأمام، إنْ ببطء لكن بثقة، هذا سمح بتدفق الدعم المالي والعيني، والذي أدى لنشوء وضع أبوي سادت فيه الصيغة الريعية، الدولة توظف، تستثمر وتتملك، وتكون تضامناتها الاجتماعية المبنية على الزبائنية، سواء على مستوى القوى الاجتماعية أو القطاعات التجارية والتي أصبحت تعتاش على الدولة، كل ذلك خلق علاقة مشوهة بين المجتمع والحكم، أدت إلى تنازله عن أي حقوق سياسية تتيح له مراقبة قرارات السياسيين وكذلك المال العام الذي غلب عليه التشوه، في الجهاز البيروقراطي بدأ يتضخم، والإدارات العامة بدون مراقبة، ادى كل ذلك لتفاقم الترهل والهدر والإفساد في سُبل الانفاق والإدارة وهذا الوضع سيُبنى عليه الكثير لاحقاً، هذا هو الجزء الأول.

أما الجزء الثاني وباختصار شديد، والذي كان عنوانه نهاية مخاض الصراع الدولي، وبداية تراجع الاهتمام بالمنطقة، بالتالي ظهور تحالفات جديدة أدت ربما الى تغير الاهتمام بالأردن، ومحاولة القفز على دوره الاستراتيجي من قبل دول عديدة، لكن ما يهم في ذلك هو تراجع التدفقات المالية والمساعدات والدعم الذي اعتاد عليه، فكانت المواجهة مع واقع مؤلم:

قطاع عام ضخم مترهل ينفق بدون وارد حقيقي، حتى إنه بذاته بدأ يكوّن شرانقهُ وخطوط دفاعه التي تحميه من اي تغيير أو حتى اي محاولة لتقليص أعداده..

قطاع خاص فاقد للإبداع ويحارب أي داخل جديد كي لا يفقد بقايا مكاسبه..

خريجون باحثون عن العمل بدون أي أفق لذلك في القطاع العام الذي فقد اي قدرة على استيعاب المزيد، ورغم ذلك حاولت الدولة أن تستثمر هذا العدد الكبير من الخريجين بتشجيعهم على العمل في الخارج ليتحولوا الى مصدر ريع جديد للعملة الصعبة، وعقدت الاتفاقيات مع دول الجوار لأجل ذلك، وهي بهكذا سلوك تكون قد أضاعت الاستثمار في جهد سنوات من الإنفاق على هؤلاء الشباب لأجل مكاسب لحظية.. صحيح هم تحولوا الى مصدر مهم لجلب العملات الصعبة، لكن إذا ما قيس ذلك بحجم المكاسب المتحصلة فيما لو استثمرت جهودهم في داخل بلدهم؛ فإن هذه المكاسب ستكون أكبر.

خلاصة هذه المرحلة؛ تحول دراماتيكي في نمط العلاقة، فالدولة التي قايضت الناس على شكل الحياة السياسية بحيث تكون الناصية في يدها، لم تعد تمتلك الأدوات لتبقي هذا الستاتيكوا قائماً.

أنتجت المرحلة السابقة كمّاً متراكماً من السخط الاجتماعي، بسبب الشعور بالتهميش واللاجدوى، فالحالة الاقتصادية متدهورة، ومثلها الحالة السياسية، والقرار الاقتصادي رهين لنخبة محدد تديره وفق مصالحها، والسياسي مشوه، فتوزيع الأدوار فيه يكاد يخلو من اي دور فاعل للمجتمع، علماً بأن الرافعة الاساسية والتي حُرم من دوره على اساسها قد فُقدت، فبات لزاماً بموجب التحولات هذه إن يُعاد توزيع الأدوار السياسية بما يخفض شيط الغضب الذي قد تؤدي إليه تلك التراكمات، وما قد تنتجه من تدفقات ساخطة هنا أو هناك قد تأخذ أشكالا متهورة، وذات طبيعة منغلقة ترى نفسها ومصالحها على أنها مصلحة الجميع وقد تورط الجميع في مسار معقد لا رجعة بعده.

والآن؛ ثمة إرهاصات بدأت تظهر مُنذرة بعواقب الاستمرار في اللامبالاة والتغاضي ومحاولة اجتراح حلول تتفق مع أهواء ومصالح مجموعة ضيقة من النخبة المصطفاة بدون أي تنازل لمصلحة الآخرين، هذا من جهة الدولة، أما الاصلاحيون، ففي أغلبهم إما يدعون للعودة إلى النظام الريعي السابق، أو أنهم طلاب مكاسب ذات طبيعة لحظية، فمن النادر أن تجد مطالباً حقيقياً لإصلاح يستند على أسس للتحول الديمقراطي.

أما بعض المغالين فيتحدثون عن الديمقراطية بوصفها الحل لكل شيء، متناسين أنها ليست غاية في ذاتها، بل وسيلة لتحقيق الحرية والمساواة السياسية.

وهاتان النقطتان قادرتان على تكوين وسادة لتأمين الدولة ضد أي ردّات فعل قد تنتج بفعل الأوضاع الاقتصادية السيئة التي أفرزتها حالة الترهل السابقة، بدون ذلك وبدون تبني نظام حكم ديمقراطي، وأعني هنا إرجاع أصل السلطة الى الارادة العامة، بدون ذلك ستستمر البلد ومواطنيها يلهثون خلف الازمات بدون توقف، والخشية أن تأتي لحظة نكتشف أننا أضعنا الكثير من الوقت، وأن الأمور قد تفاقمت الى مرحلة اللاعودة لا سمح الله.