عقوبات اقتصادية على سورية أم على جوارها ?

ترك قرار اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة في 27/11/2011 بفرض حزمة من العقوبات الاقتصادية على سورية كثيراً من التساؤلات حول تأثير مثل تلك العقوبات على دول الجوار, ومنها الاردن. فالعقوبات سيتحمل عبئها الشعب العربي السوري بالاساس, لكن آثارها السلبية لن تقتصر عليه بأي حال من الاحوال, بل ستعقد حياة الشعب العربي في العراق ولبنان والاردن بالاخص, لو تم الالتزام بها.

وإذا أخذنا التجارة البينية كمثال, سنجد في عامي 2009 و2010 مثلاً أن العراق استوعب حوالي 32 بالمئة (المرتبة الاولى), ولبنان حوالي 13 بالمئة (المرتبة الثانية), والسعودية حوالي 5 بالمئة (المرتبة الخامسة) من الصادرات السورية, فيما جاءت ألمانيا وإيطاليا في المرتبة الثالثة والرابعة. وقد ارتفعت الصادرات السورية ارتفاعاً أسياً خلال السنوات الاخيرة (رغم انخفاضها قليلاً عام 2009) إلى ما يقارب الـ 14 مليار دولار عام 2010 ، بعد أن كانت 3.3 مليار دولار عام 1999 . فالصادرات كانت محركاً رئيسياً للاقتصاد السوري خلال السنوات الاخيرة, وللنمو وتشغيل العمالة, وبالتالي فإن العقوبات الاقتصادية على سورية, مثل الحظر الاقتصادي على العراق من قبل, ليست الا محاولة لتجويع الشعب السوري ولضرب اقتصاد البلد بهدف زعزعة الاستقرار السياسي والاجتماعي.

أما الواردات عام 2010 ، فقد جاء حوالي 11 بالمئة منها من السعودية, و10 بالمئة من الصين, و7.6 بالمئة من تركيا, و5.5 بالمئة من الامارات العربية المتحدة, و5.5 بالمئة من إيطاليا, 4.6 بالمئة من روسيا, 4.4 بالمئة من لبنان, و4.3 بالمئة من مصر, 4 بالمئة من إيران, و4 بالمئة من كوريا الجنوبية. وقد ارتفعت الواردات بدورها بشكل أسي من 3.2 مليار دولار عام 1999 إلى حوالي 17 مليار دولار عام 2010 (مع انخفاضها عام 2009).

وكل البيانات السابقة من موقع وكالة المخابرات المركزية الامريكية CIA على الانترنت.

ونستنتج من هذه اللوحة السريعة للصادرات والواردات السورية:

أ - أن أكثر من نصف الصادرات السورية تذهب لثلاث دول عربية فقط, هي العراق ولبنان والسعودية, وهذا يفوق المعدل العربي العام للتجارة البينية بكثير, ويعبر عن توجه عروبي في الاقتصاد السوري, ولذلك كان لا بد من ضرب هذه الحلقة بالذات, لأن الولايات المتحدة كانت قد عاقبت سورية اقتصادياً إلى حدٍ لم يعد لها معه أي تأثير اقتصادي عليها. وكما قال أليوت إبرامز في ورقته التي وضع فيها مقترحاً لإسقاط النظام السوري: "أما الولايات المتحدة فقد مارست الحظر بالنسبة لسورية حتى لم يعد لديها ما تفعله في هذا المجال. فلا يوجد بينها وبين سورية أي تجارة أو استثمار تقريباً". لذا اقترح إبرامز تشديد العقوبات الاقتصادية الاوروبية والتركية على سورية. (نص ترجمة ورقة أليوت إبرامز منشورٌ على موقع "الصوت العربي الحر" تحت عنوان: خطة الولايات المتحدة لإشعال سورية ).

ب - أن معامل الانكشاف, الذي يساوي نسبة الصادرات زائد الواردات مقسومة على الناتج المحلي الاجمالي, يفوق الـ 50 بالمئة , وهذا يدل على أهمية التجارة الخارجية بالنسبة للاقتصاد السوري. ولكن حتى هذا المؤشر لا يعطي التجارة الخارجية حقها. فالاقتصاد السوري يقوم على أربعة أعمدة: الزراعة, الصناعة, النفط, والسياحة. والقصة ليست قصة نسب مئوية فحسب, بل قصة بنية هيكلية, أي أنها نوعية أكثر منها كمية. فالسياحة وحدها ولدت أكثر من 8.3 مليار دولار من العائدات عام 2010، من جراء زيارة 4.6 مليون عربي, و1.5 مليون مغترب سوري, و2.3 مليون من غير العرب لسورية, حسب الارقام الرسمية السورية, وقد ضُرب القطاع السياحي بقسوة عام 2011 ، وضاعت معظم عائداته التي ذهبت إلى تركيا التي تستفيد مباشرة, بهذه الطريقة على الاقل, من زيادة حدة التوتر في سورية والاقليم.

وكذلك تلقت سورية أكثر من 2.5 مليار دولار من الاستثمار الاجنبي المباشر عام 2010 ، حسب الارقام الرسمية السورية أيضاً, وهو ما كان يفوق المتوقع, ولكن الاستثمار الاجنبي المباشر حساس جداً لارتفاع منسوب المخاطرة وعدم اليقين, وهي العوامل التي تؤثر على الاستثمار المحلي بدوره, وهو المطلوب أمريكياً بالطبع. أما القطاع النفطي فيؤمن للحكومة السورية ثلث عائداتها بالقطع الاجنبي, ومن هنا جاء الحظر الاوروبي على واردات النفط والغاز السورية, خاصة أن 90 بالمئة من صادرات النفط السورية تذهب للدول الاوروبية. وما عدا ذلك, فإن الصادرات السورية في معظمها زراعية وصناعية خفيفة, فهذه حرب اقتصادية بلا أدنى شك, وقطع الارزاق أشد وطأة من قطع الاعناق في الكثير من الاحيان.

ج - أما الجانب الايجابي في هذه الصورة المكفهرة فهو أن تركيز سورية على العلاقات الاقتصادية العربية, ناهيك عن خريطة تحالفاتها السياسية, ستجعل العقوبات الاقتصادية غير فعالة على الاقل في حالة العراق ولبنان وروسيا والصين وإيران. وقد تعاني سورية بعض الشيء على المدى القصير قبل أن تجد بدائل - متوفرة في النهاية - لأسواق الدول التي تقاطعها استيراداً وتصديراً ما دام الامر لم يصل إلى حظر دولي عبر الامم المتحدة, وهو ما نأمل أن تضمنه روسيا والصين.

وليست سورية بلداً يعيش على الاستيراد حتى يجوع ويعرى إذا لم يستورد الطعام والثياب من الخارج, بل لديه البنية التحتية لقدر معقول من الاكتفاء الذاتي في أسوأ الاحوال, وهو ما يتطلب تعزيز روابط السوق الداخلية وتعميقها, اضافة لضرورة إيجاد بدائل إقليمية ودولية للخليج العربي وأوروبا الغربية. فالصين بأمس الحاجة للنفط ومشتقاته, والهند تحتاج للفوسفات الذي تصدره سورية, وآسيا هي الصاعدة اقتصادياً, وأوروبا الغربية وأمريكا الشمالية هي الآفلة. ومستوى المعيشة قد يتأثر, لكن العقوبات لن تخضِع سورية, بل قد تخرج أقوى إذا مدت خيوطاً باتجاه منظمة شنغهاي للتعاون ويسار أمريكا اللاتينية.

وعلى كل حال, على تركيا أن تتذكر أن تجارتها مع سورية بلغت مليارين ونصف المليار دولار تقريباً عام 2010 ، وأن صادرات تركيا إلى سورية بلغت تقريباً ثلاثة أضعاف صادرات سورية إلى تركيا, كما أن سورية والعراق منفذها التجاري إلى دول الخليج العربي! وتركيا تقامر بكل ذلك مقابل طموح إمبراطوري لن يتحقق.

الانعكاسات المحتملة للعقوبات على سورية على الاردن:

وقع الاردن وسورية اتفاقية تجارة حرة في 8/10/2001 كان يفترض أن تلغي الضرائب الجمركية على 99 بالمئة من السلع التي يتم تبادلها بين الدولتين. وقد أصدرت غرفة تجارة عمان تقريراً في 28/11/2011 قالت فيه أن التبادل التجاري مع سورية خلال الاشهر التسعة المنصرمة قد ازداد حوالي 15 بالمئة وصولاً إلى حوالي 400 مليون دولار, مقارنة بنفس الفترة خلال العام الماضي. وعبر تقرير الغرفة عن أمله أن لا يتأثر التبادل التجاري بين الاردن وسوريا بسبب عقوبات الجامعة العربية, وأن لا تتأثر التجارة الاردنية مع لبنان وتركيا باعتبار سورية المنفذ البري الوحيد للأردن إليهما... وهو ما عبر عنه كثيرٌ من الاردنيين مؤخراً, بعضهم رسميون سابقون...

وقد بلغ حجم التجارة البينية السورية-الاردنية عام 2010 أكثر من 600 مليون دولار حسب دائرة الاحصاءات العامة الاردنية. كما يرتبط البلدان بعلاقات تجارية واقتصادية متشعبة لا تقاس فقط بحجم التبادل التجاري, بل بالجغرافيا واستحقاقاتها. فكثير من التجار الاردنيين يستوردون بضائعهم عبر ميناء اللاذقية, لأن الشحن عبر المتوسط أقل تكلفة من الشحن عبر البحر الاحمر, وهو ما أصبح أكثر تعقيداً مع ازدياد تكلفة التأمين على الشحن البحري إلى ذلك الميناء.

والاردن يستورد 60 بالمئة من قمحه من سورية, ونتحدث هنا عن تأمين الخبز اليومي للناس. وبالمقابل, تستورد سورية الاسمنت من الاردن. وقد أدى انخفاض استيراد الفواكه من سورية خلال الفترة الماضية إلى ارتفاع أسعار التفاح والبرتقال بالتحديد في الاردن, وهو ما يؤشر على ما سيأتي لو تدهور الوضع الامني والاقتصادي في سورية. فتخيلوا لو حدث هذا على نطاق أوسع لخبز المواطنين الاردنيين اليومي!

كما أن منطقتي الرمثا وإربد تعتمدان إلى حد كبير على نقل السلع والاشخاص بين الاردن وسورية, وقد تأثر ذلك القطاع بشدة منذ بدأت الاضطرابات في سورية.

وهنالك مناطق حدودية أردنية ترتبط بشبكة الكهرباء السورية, وترتبط سورية بخط الغاز العربي عبر الاردن. فماذا سيحدث لكل هذا?!

وللتأكيد على تأثير الجغرافيا على الاقتصاد, نشير أن وزارة السياحة والاثار الاردنية ذكرت أن عائدات السياحة انخفضت 16 بالمئة في الاشهر السبعة الاولى من عام 2011 مقارنة بعام 2010 ، وانخفضت أكثر من الربع لشهر تموز 2011 وحده, مقارنة بتموز 2010 . والسبب هو أن الرحلات السياحية غالباً ما تتضمن زيارة مصر والاردن وسورية ضمن حزمة واحدة, وبالتالي فإن ظروف مصر وسورية أثرت بشكل مباشر على الاردن سياحياً, والسياحة قطاع أساسي في الاقتصاد الاردني تجاوزت عائداته 3 مليارات دولار عام 2010 . والسائح الاجنبي لن يأتي للتمتع بمرافق الاردن السياحية إذا اشتعلت حرب أهلية في سورية أو حدث فيها تدخل تركي.

ويدفع الاردن اليوم الثمن الغالي بسبب فقدانه لموقعه السابق في السوق العراقية ولشحنات النفط العراقي بأسعار رمزية من جراء الغزو الامريكي للعراق, وينعكس ذلك الان بشكل مباشر على ازدياد العجز في الميزان التجاري وفي الحساب الجاري الاردني بشكل فلكي. وإذا كانت الولايات المتحدة قد دفعت مبالغ تعويضية للأردن عامي 2003 و2004 عن ذلك الغزو, فإن الخسائر طويلة المدى للاقتصاد الاردني كانت أكبر بما لا يقاس من تلك التعويضات, فهل من مصلحة الاردنيين أن يكرروا مجدداً تلك التجربة مع سورية, وهذا دون أخذ الانعكاسات الامنية والسياسية لانفجار الوضع في سورية على الاردن بعين الاعتبار, والتكاليف الاقتصادية التي سيتكبدها الاردنيون من جراء تلك المغامرة الرعناء وغير المحسوبة, الا على قياس غيرهم?!! ومن دون أخذ الموقف المبدئي والرابط القومي العربي والشامي بعين الاعتبار!