أزمة سد النهضة ليست سد النهضة!
اخبار البلد ـ 7 أعوام وأزمة سد النهضة تكاد تكون العنوان الأبرز في الصراع الأفريقي، أزمة بدأت في أبريل (نيسان) 2011 حين استغل الإثيوبيون ما مرت به مصر من أحداث ثورة 25 يناير (كانون الثاني) وتغير النظام الحاكم. وبإلقاء نظرة على تاريخ بداية الأزمة يبدو للمراقب نية الجانب الإثيوبي للإضرار بالجانب المصري.
فعلاقات الدول تحكمها أيضاً ما يعرف بمنظومة العُرف الأخلاقي التي تتجاوز ما هو قانوني، فلم يكن من الأخلاق استغلال إثيوبيا للارتباك السياسي الذي مرت به مصر، ومهما حدث فلن ينسى المصريون سوء النية الإثيوبي.
مروراً بكل محطات الصراع منذ بدايته وصولاً إلى ما وصلنا إليه الآن يتأكد أن للقضية بعداً آخر، قد يكون تائهاً وسط هذا الكم من التفاصيل التي افتعلها الإثيوبيون. والبعد الغائب في تلك الأزمة أنها ليست أزمة سد النهضة إطلاقاً، وإنما الأزمة الحقيقية هي أبعد بكثير من تاريخ أبريل 2011 والإعلان عن بناء السد.
الأزمة الحقيقية تعود إلى تاريخ عام 1929 وتحديداً إلى اتفاقية تقاسم مياه النيل 1929 وهي اتفاقية أبرمتها الحكومة البريطانية - نيابة عن عدد من دول حوض النيل (أوغندا، وكينيا، وتنزانيا) مع الحكومة المصرية، يتضمن إقرار دول الحوض بحصة مصر المكتسبة من مياه النيل، وأن لمصر الحق في الاعتراض في حالة إنشاء هذه الدول مشروعات جديدة على النهر. وإثيوبيا ترفض هذه الاتفاقية وتشكك فيها وتعترض على حصة مصر والسودان البالغة 74 مليار متر مكعب ماء، وإجمالي نصيب مصر 55.5 مليار متر مكعب مياه، والسودان 18.5 مليار.
ولعل الرقم يعيدنا إلى السعة التي صمم على أساسها سد النهضة، وهي 74 مليار متر مكعب مياه، أي أن سد النهضة صمم بالضبط ليلتهم ما مقداره حصة مصر والسودان.
أزمة سد النهضة هي جزء، وحلقة من حلقات الاعتراض الإثيوبي على حصة مصر والسودان وعلى اتفاقية 1929.
ولعل الحلقة التي سبقت افتعال أزمة سد النهضة هي ما أطلق عليه «أزمة عنتيبي»، وهي اتفاقية إطارية وقّعت عليها دول المنبع في حوض النيل عام 2010 بتحريض من الحكومة الإثيوبية، وهي «أوغندا، وكينيا، ورواندا، وتنزانيا، وإثيوبياً طبعاً»، وكان هدف هذه الدول إنهاء ونسف اتفاقية 1929 أي الحصص التاريخية لمصر والسودان.
هذه الاتفاقية تعطلت بعد رفض مصر والسودان، وبعد المساعي الدبلوماسية التي أبطلتها، لأنها كانت تحتاج موافقة دولة واحدة فقط من دول حوض النيل الإحدى عشرة. وبالتالي، لو فتّشنا عن السبب الحقيقي وراء فشل جميع المفاوضات التي تمت، فسنجده يكمن في هذا التاريخ 1929، حول الرفض الإثيوبي للحقوق التاريخية لمصر والسودان.
الواضح تماماً أن الجانب المصري يعرف جيداً العقلية الإثيوبية، وأن الأزمة ليست في سد النهضة، وهذا ذكره وزير الخارجية المصري مراراً.
ولعل المساعي الأخيرة التي قام به الوزير المصري سامح شكري إلى أفريقيا تؤكد ذلك الفهم.
لو رصدنا الدول التي قصدها الوزير، يمكن لنا فهم فحوى الرسالة التي يحملها. فقد توجه إلى كينيا، واحدة من مجموعة عنتيبي، التي وقفت مع إثيوبيا في اتفاقية إعادة التقسيم. ثم جنوب أفريقيا التي يعوّل عليها الإثيوبيون كدولة فاعلة في الاتحاد الأفريقي، ولها مواقف سابقة في غير صالح مصر، ثم إلى الكونغو الديمقراطية، والسنغال، وجزر القُمر، وتونس. كلها دول تسعى الدبلوماسية المصرية لخلق حزام ضامن لتحركاتها المستقبلية. الصراع دائماً يتحرك دبلوماسياً ويبقى دبلوماسياً حتى لو انتقل في إحدى محطاته إلى الصراع المسلح.
مصر تسعى لتفويت فرصة الوقيعة بين مصر والسودان كطرف والاتحاد الأفريقي كطرف آخر، فموقف إثيوبيا رافض لمقترح الوساطة الرباعية المتمثلة في الاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، وأميركا، بالإضافة إلى الاتحاد الأفريقي. يظهر الموقف الإثيوبي كأنه الموقف الوحيد المدافع عن الاتحاد الأفريقي، وأن مصر والسودان مشككان في نزاهة الاتحاد الأفريقي، وهذا غير حقيقي.
إثيوبيا تعوّل كثيراً على الاتحاد الأفريقي، باعتبار أن مواقفه لم تكن في صالح مصر خلال السنوات التي تلت ثورة 30 يونيو (حزيران) 2013 حينما علق عضوية مصر، وكان متحاملاً جداً. إثيوبيا تتجاهل تماماً أن الزمن تغير، وأن مصر تغيرت وأصبحت في موقف أكثر قوة.
إصرار إثيوبيا على الملء الثاني هو محاولة من رئيس وزرائها آبي أحمد على تصدير أزماته الداخلية وتعليقها على المشجب المصري.
آبي أحمد، الذي ظن أنه مدعوم دولياً بعد نيله جائزة نوبل للسلام، غارق الآن في كثير من المشكلات؛ أزمة إقليم التيغراي الذي يضم أكثر من 6 ملايين نسمة، وأزمة الحدود السودانية «إقليم الفشقة» بعد نجاح السودانيين في استعادته، بالإضافة إلى أزماته الاقتصادية. هو يريد مشروعاً ليعيد تقديم نفسه من جديد إلى الشعب الإثيوبي باعتباره حامي الحمى والمدافع عن الحقوق، لكن اللعب في ملف يمثل حياة أو موت مع دولة بحجم مصر وتاريخها وقوتها العربية والأفريقية يعتبر انتحاراً.