الاحتلال أم حماس.. أيهما سبب المشكلة في فلسطين ؟

اخبار البلد - جمال الطاهات


السؤال استفزازي في الأردن، وعبر العالم العربي. ولكن طرحه ضروري لتوضيح الفخ الاستراتيجي في إدارة الصراع في فلسطين منذ قرابة القرن. فقبل مناقشة القول بأن حماس هي المشكلة وليس الاحتلال، يجدر التذكير بأنه قبل سنوات كان الحديث عن أن عرفات هو المشكلة وليس الاحتلال. وكان الحل الذي اطلق عليه "اليوت أبرامز" مساعد رئيس مجلس الامن القومي الامريكي: (إزالة العقبات من طريق عملية السلام)، يتضمن الموافقة على تصفية كل من الرئيس عرفات والشيخ أحمد ياسين.

وللتذكير، بعد عرفات تراجعت عملية السلام، وتراجع اهتمام العالم بإيجاد حل سلمي للقضية الفلسطينية، وتم إطلاق يد إسرائيل دون ضوابط. وقبل صعود عرفات ومنظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، كان الحديث عن أن المقاتلين الفلسطينيين، هم المشكلة وليس الاحتلال. وقبل عام 1967، كان الفخ الدبلوماسي الاستراتيجي منع المقاتلين واستعادة التهدئة على خطوط الهدنة من أجل حل سياسي ممكن. ولكن في الوقت الذي كنا ننتظر فيه حلاً سياسياً، يعيد اللاجئين حسب مقررات الشرعية الدولية، كانت مخططات الاحتلال في تصاعد وتم تنفيذها عام 1967. وقبل ذلك مشهد عام 1936، حيث كان الفخ الدبلوماسي الاستراتيجي، أن الثوار هم المشكلة وليست برامج الاستيطان التي تنفذها حكومة الانتداب. وفي الوقت الذي تم احتواء الثورة، كان هناك من يتجهز للمرحلة القادمة التي أعطيناها إسم النكبة.

بكل بساطة، أي موقف يتورط بالفخ الدبلوماسي الاستراتيجي بأن الهدف هوالتهدئة (ويتضمن الموافقة على فك ارتباط غزة بالسياق الوطني الفلسطيني بالقوة الإسرائيلية)، وإعادة الامور إلى ما كانت عليه قبل الأول من رمضان الماضي، سيكون تكراراً لما مضى من تجارب بائسة. فالماضي القريب يساعدنا على تجنب الفخ الدبلوماسي الاستراتيجي الراهن. والمطلوب إسرائيلياً الآن، تحميل الإقليم أعباء فك ارتباط غزة عن بقية السياق الفلسطيني، ولجم حماس وتقليع مخالبها، تحت عنوان دبلوماسي استراتيجي جديد وهو: ضمانات إقليمية لعدم تكرار جولات العنف.

الحقيقة المرة، هي أن القوة تفرض أسئلتها، وتحتكر تحديد المسارات بقبول الأسئلة ووضعها على طاولة المفاوضات. فأحد دروس الماضي، تفيد ان المفاوضات الأهم هي التي تحدد ما سوف يطرح على منصات التفاوض العلنية. وهذه المفاوضات (التمهيدية) هي الرابط بين حسابات الميدان، مع حسابات المسافات القصيرة التي تفصل اطراف التفاوض عن شظايا المعركة. والفرصة في موازين القوى الراهنة، أن القوة ليست معدات عسكرية فقط، بل مركب معقد، أهم عنصر فيه هو القدرة على استحضار عناصر القوة غير العسكرية، وعدم التفريط بها بأوهام حسابات المسافات.

وما يتضح انه فرصة ملائمة للأردن، هو التحول الموضوعي للأزمة (من عنف في غزة) إلى التحضير لمواجهة استحقاقات "وحدة السياق الوطني الفلسطيني" بشكل غير مسبوق منذ عام 1948، ولكن بموازين قوة مختلفة، وتنوع في الوسائل وتعدد في الساحات. وهذا يمنح الأردن فرصة ذهبية لعدم الوقوع في فخ

تحمل أعباء مهمة استعادة الهدوء بشكل مجاني، وتحت تأثير الحسابات الخطأ للمسافات القريبة. فأي هدوء الآن لن يكون كما كان في 2008، و2014. هذه المرة المعضلة مختلفة، وكذلك الفرصة التي تفتح باب المناورة، إذا لم يكن من أجل تحقيق مكاسب، فعلى الأقل تجنب الخسائر. فالخسائر اليوم على طاولة المفاوضات، ستقود إلى خسائر متتالية، تطال العديد من قوائم الأردن في المشهد الفلسطيني، بما فيها رعاية المسجد الأقصى.

وهناك بديل للمساهمة بتحمل أعباء لجم حماس وترويضها داخل قفص غزة كمهمة إقليمية، والمساهمة بضمانات تهدئة طويلة الاجل دون مكاسب سياسية. ويتمثل هذا البديل بتقديم مبادرة أردنية مضادة عنوانها، مهمة دولية لضمان حقوق متساوية للفلسطينين في فلسطين التاريخية، كخطوة تمهيدية لحل الدولتين، وضمان حق تقرير المصير في اجواء من الثقة المتبادلة. فهذه ليست بديلاً لحل الدولتين، ولكنها خطوة ضرورية للتخلص من الاعباء التي تسد طريق حل الدولتين. ومثل هذه المبادرة تحظى بدعم طيف واسع من الأصوات الرسمية (عبرالعديد من العواصم)، ومراكز ثقل مختلفة تتبناها. فهي ليست جديدة. وتنسجم مع المطلب الدولي من حيث أنها تقدم ما يلزم لسحب مبررات العنف من السياق الوطني الفلسطيني. وتقديم ضمانات سياسية وأمنية، لكل من الفلسطينين والإسرائيليين في آن معاً. كما أنها تنقل سياق تطوير وتحويل البنية السياسية لاطراف الصراع لتنسجم مع متطلبات التسوية النهائية، من ساحات الحرب إلى عمليات مدنية متواصلة ببرنامج يحظى برعاية دولية. وتجعل المسار الدبلوماسي التفاوضي للحل النهائي، تتويجاً لعملية سياسية تدرجية. وذلك بديلا للاستعصاء الدموي الناتج عن الاصرار على أن تسبق التسوية النهائية أي مشروع لتحسين شروط حياة الفلسطينيين، ولجم عناصر التفجير في المجتمع الاسرائيلي.

كما أنها أساس لردم الفجوة السياسية والاقتصادية بين الفلسطينيين والإسرائيلين، التي تنتج مبررات العنف. فهي من جهة تنهي الاستعلاء الإسرائيلي الذي يبرر نفسه بالتفوق السياسي والاقتصادي، ويضطهد الفلسطينيين لإدامة هذه الفجوة باعتبارها قدراً نهائياً. ومن جهة أخرى تعزز منطق التعايش لدى الفلسطينيين، على المديين القريب والبعيد، وتخفف من جاذبية الدعوات الراديكالية على جانبي خط الصراع. والنقطة التي يجدر التوقف عندها، هو أن هذه المبادرة، أو أي مبادرة لحل النزاع، تمنح من يقدمها الفرصة لتقديم رواية جديدة للصراع، تؤسس لحلول تضمن مصالحه في أي تصور للحلول النهائية. ففي المحصلة النهائية، لا يمكن لأي طرف متصل بالصراع أن يتمسك بفيتو دائم ضد المبادرات التي لا تناسبه. فقد يحوله ذلك إلى عقبة مطلوب تذليلها، لفتح الطريق أمام بعض الحلول. كما لا يمكنه تحمل مخاطر البقاء في حالة انتظار لما يناسبه من فرص.

فمع استرداد السياق الوطني الفلسطيني لوحدته، وبسبب مخاطر وأعباء غياب وحدة التعبير السياسي لهذا السياق، لم يعد مقنعاً، ولا مجدياً، استمرار اقتسام مهمات مبعثرة في التعامل مع مكونات الشعب الفلسطيني، الذي تحدى التفكيك واستعاد وحدته. وهذه الحقيقة هي المكسب الأبرز لكل من يقف في خندق المواجهة مع الاحتلال، ويسعى لتحقيق مكاسب، ليس من أجل الفلسطينين فقط، ولكن من أجل الأردن أيضاً. إذ لا يمكن الارتكان إلى أن غياب قيادة فلسطينية تعبر عن الوحدة الجديدة للسياق الوطني الجديد، فرصة مغرية لتحقيق مكاسب والحصول على ادوار. إذ أن الانجرار خلف غواية اقتسام المهمات المتعددة، مصيدة الباحثين عن ادوار وشرعيات، ولا يمكن لها أن تغري الشرعيات المستقرة.