الجرائم الاقتصادية وتشجيع الاستثمار .. إلى أين؟

اخبار البلد - د . قاسم النعواشي
 


لم يعد طريق المحاكم هو الطريق الصحيح لمعالجة قضايا الجرائم الاقتصادية ! بل هي الطريق المسدود؛ وواقع الحال أثبت ذلك.


ما يزيد عن مئة ألف مواطن وأسرة أردنية وعربية تضررت من الفساد الذي عصف بعدد من الشركات المساهمة العامة. فما مصير أموال المواطن الذي وثق بالقوانين الناظمة والضابطة للاستثمار في السوق المالي الأردني؟ وما ذنب العسكري المتقاعد الذي استثمر مكافأة نهاية الخدمة في السوق المالي على أمل تنمية أمواله ليتفاجأ بأنه خسرها جميعها؟ ماذا سيقول لأبنائه؟!


تمتلئ رفوف المحاكم بملفات الجرائم الاقتصادية التي قد تزيد بمجموعها عن مليار دينار! هذه القضايا تخص العديد من الشركات المساهمة العامة، مثل شركة المستثمرون العرب المتحدون، والمطاعم النموذجية، والأهلية للمشاريع، والعرب للتنمية العقارية، وأوتاد للاستثمارات، وسرى للتنمية والاستثمار، وأموال إنفست، والشرق العربي للاستثمارات الصناعية والعقارية.. وغيرها الكثير .. تنقل ملفات كل قضية من مكاتب المحاكم إلى قاعة المحكمة باستخدام عربات التسوق – نظرا لكبر حجم الملفات! وأجهزة الدولة والنخب القانونية ومجالس إدارات هذه الشركات يرفضون الاعتراف بالمشكلة وتحديدها.. التي هي بداية الطريق للحل! وبالنتيجة: هذه الشركات والمواطن الذي ساهم في هذه الشركات هم الضحية .

فبعد أن تنهي هيئة النزاهة ودائرة المدعي العام التحقيق في المخالفات التي ارتكبت بحق هذه الشركات، ويتم جمع الأدلة والبينات الكافية لتوجيه التهم، يتم تحويل الملف إلى المحاكم.. ولكن ما النتيجة ؟ مع كل أسف: باعدت هذا الإجراءات بين المتضررين وبين فرصة حصولهم على حقوقهم ، على الرغم من ان ظاهرها يبدو انها تصب في مصلحتهم.



وعلى الرغم من التعديلات التي تجرى على القوانين إلا أن هذه التعديلات تهتم بالضبط وإحكام الصياغة وتسريع الإجراءات، ولكن كل ذلك لا يسهم في تحصيل حقوق الطرف المتضرر – وهم المساهمين. ولكم أن تتصوروا حجم الضرر الواقع على الدولة والمواطن بسبب هذه القضايا التي أصبح لا مستقبل لها، فمئات الملايين من الدنانير محجوزة لصالح هذه القضايا معظمها عقارات لا تستفيد الدولة منها أي شيء ولو حتى رسوم مسقفات أو رسوم نقل ملكية أو غيرها من الضرائب. وتصوروا حجم السيولة التي ستتحرك في السوق لو تم البت في هذه القضايا وتحرير هذه الأموال!


وفيما يلي بعض الشواهد، التي تبين أن المحاكم لم تعد المكان الصحيح لمعالجة الجرائم الاقتصادية الكبرى:

- أولا: شركة العصر للاستثمار (شركة مساهمة عامة) سجلت دعوى في عام 1996 ضد رئيس مجلس إدارة أسبق بقيمة 4.5 مليون دينار، لم يصدر فيها قرار حكم، وإنما انتهت في عام 2015 (أي بعد 20 سنة) عن طريق (تسوية) تضمنت فقط (قيام المتهم بالتنازل عن أراضي تعود مليكتها للشركة كانت مسجلة باسمه – تقدر قيمتها بـ 300 ألف دينار) مقابل اسقاط قضية الجرائم الاقتصادية عنه. أي أن المتهم لم يقم بدفع قرش واحد للشركة.

- ثانيا: شركة أموال إنفست (شركة مساهمة عامة) سجلت دعوى عام 2011 ضد مجلس إدارة أسبق تضمنت مخالفات تصل 66 مليون دينار، وبعد مضي عشرة سنوات لم يتم سماع نصف شهود النيابة! فتصوروا كم ستحتاج القضية من سنوات للوصول صدور حكم قطعي.

- ثالثا: الشركات المساهمة العامة المرتبطة بـ (هـ. د.) و (ي. ق.)، لا تستطيع أي شركة متضررة – حتى لو كان لديها قرار حكم قطعي - التنفيذ للحصول ولو على قرش واحد من حقوقها! على الرغم من أن حجم المخالفات يصل إلى 300 مليون دينار! وقد أنهى الأول فترة سجن 6 سنوات وعاد ليمارس حياته الطبيعية، والثاني اختفى عن الأنظار منذ 9 سنوات.

- رابعا: وهو الأسوأ الذي لم أذكره بعد! حيث الصاعقة الكبرى تظهر عندما يصدر قرار حكم في قضية الجرائم الاقتصادية، فالغرامة القانونية ستأكل الأخضر واليابس. وخير مثال: شركة سرى للتنمية والاستثمار، فبعد أن حصلت على قرار حكم قطعي يلزم المتهم بدفع حقوق الشركة مقرونا بدفع غرامة تزيد عن 5 مليون دينار وقد تصبح تكلفة الغرامة 10 مليون أو أكثر إذا ما تم بيع عقاراته بالمزاد. عندها – أسقط بيدي المساهمين - وأصبحوا يأكلون أصابع الندم ويتمنون أنهم لم يحصلوا على قرار حكم، بل ويتمنون أنهم لم يذهبوا إلى المحكمة أبدا. وأصبح أملهم الوحيد للحصول على شيء من حقوقهم معلق على أمل أن توافق محكمة التمييز إعادة محاكمة المتهم – ولكن من غير جدوى.


هذه الشواهد من ملفات المحاكم، تثبت بما لا يدع مجالا للشك بأن طريق المحاكم هو الطريق الخطأ لمعالجة الجرائم الاقتصادية.. وأنه أصبح من الضرورة استحداث تشكيل خاص كـ (خيمة ملكية) أو غرفة اقتصادية خاصة للجرائم الاقتصادية تتمتع بصلاحيات واسعة للبت في هذه القضايا كقضايا حقوقية خلال شهر أو شهرين.


لقد آن الأوان أن نتنبه إلى هذا الإخفاق الكبير المتمثل في عدم جدوى اللجوء إلى المحاكم في قضايا الجرائم الاقتصادية. وقد أصبح تبني آليات فعّالة ضرورة لإثبات أن مصلحة المواطن وتحصيل حقوقه هي في قمة الأولويات.. وآن نثبت مصداقيتنا في حرصنا على وطننا وعلى تشجيع الإستثمار وحماية أموال المستثمرين المحليين والخارجيين.


وغير ذلك سنبقى نشاهد نمو في ملفات الفساد، مقابل عجز تام في التقليل من نتائجها فضلا عن علاج أسبابها معالجة حقيقية وفعّالة.


وسيبقى المساهم والسوق المالي والاستثمار ينتقلون من خسارة إلى أكبر منها..


إن بناء الثقة في نفوس المستثمرين هو الصمام لضمان نمو عجلة الاقتصاد.