أحجية الإنتخابات الفلسطينية!

أخبار البلد-

 

المحامي إبراهيم شعبان

يثير موضوع الانتخابات الفلسطينية المتوقعة في الشهر القادم، جدلا واسعا وأرقا مستمرا وحججا وذرائع جادة وهازلة، في جمهور الشعب الفلسطيني المنتشر في كل مكان وبخاصة في الضفة والقطاع . ففريق هام يتوقع تأجيل هذه الإنتخابات أو إلغاءها، بينما فريق هام آخر يؤيد إجراءها في كل الظروف والأوضاع.

تتصدر هذه العوائق، موضوع إجراء الانتخابات في القدس العربية وكيفية التغلب على هذا المشكل. والكل مجمع من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، سلطة ومعارضة أن لا انتخابات تشريعية بدون القدس. لكن غموض العبارة وإبهامها، تصطدم بالواقع العملي والمقصود منها ومفهومها تفصيلا، وغدا الموضوع طلسما لا يملك أحد مفتاحا حقيقيا لحل هذا الطلسم وكيفية حله. وقد يقال أن عمل كذا كافٍ وعمل كذا غير كاف. ولماذا لم يوضح ليومنا هذا بيان تفصيلي لكيفية إجراء الإنتخابات بشكل واقعي في القدس، وهل هذا هو الغموض البناء.

الغريب أن يثير حق الإنتخاب كل هذه الجلبة والنقاش، وهو حق دستوري وإنساني وسياسي أساسي كفلته الدساتير والمواثيق والأعراف للشعوب. وقد مثل هذا النقاش الحاصل بين الكثيرين من أبناء الشعب الفلسطيني والفصائل الفلسطينية على اختلافها، وكأنه هبة أو صدقة أو عطية تمنح أو تحجب وفق الظروف والأوضاع والأسباب والذرائع. وكأننا هجرنا معناه الحقيقي وفوائده وإسناده، بحيث نسيناه أو تجاهلناه ورغبنا عنه، وتعودنا على نقيضه . وكان من المفترض أن يعتبر حق الإنتخاب متطلبا مسبقا لقيام السلطتين التنفيذية والتشريعية بدورهما القانوني والشرعي في فلسطين.

دعونا نذّكر أن حق الإنتخاب هو حق خاص بمعنى الكلمة يمارسه الفرد المواطن ذكرا كان أو أنثى، وبغض النظر عن لونه ولغته وجنسه ودينه وعرقه وأصله الاجتماعي وماله وتحصيله العلمي. ولكنه حق ذا طابع عام لا تقبل فيه الإنابة ولا الوكالة ولا البيع أو الرهن أو التأجير. حق يمارس الفرد فيه ويشارك في الحياة السياسية في بلده سواء على صعيد السلطة التشريعية أو السلطة التنفيذية.

الانتخاب حق سياسي دوري وله طرقه ووسائله، يتم في كل فترة زمنية يقررها الدستور، وهو يمارس بشكل سري من أجل إسناد السلطة ( أية سلطة )، ومنحها شرعية الحكم لأن هناك طرقا أخرى يتم فيها تولي الحكم وهي غير شرعية وقطعا غير ديموقراطية. من هذه الوسائل الدهاء والمكر والانقلاب العسكري والقبيلة والعشيرة والاتصال بالله بل والمال مجتمعة أو منفردة.

وقد تقرر أخيرا إجراء انتخابات في فلسطين في خطوة مباركة، بعد خمسة عشر عاما من آخر انتخابات فلسطينية. ودون الخوض في الأسباب والدواعي لهذا التراخي، فقد تقرر إجراء انتخابات فلسطينية في الثاني والعشرين من شهر أيار من العام الحالي، تشمل الإقليم الفلسطيني المتاح وهو الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس. ولن يشمل الفلسطينيين في الخارج أو الداخل ٤٨.

منذ البداية بدا موضوع القدس بأنه يشكل المعضلة الكبرى في إجراء الانتخابات الفلسطينية. ويثور السؤال هنا ألم يكن موضوع القدس حاضرا بكل أبعاده في ذهن القيادة السياسية ومخيلتها حينما تم إصدار قرار الانتخابات أم استحدث فيما بعد. وما دام قد صدر القرار وفق القانون الأساس لعام 2003 ووفق القانون فقد ولد سليما ويصعب التراجع عنه وسحبه ويبقى التنفيذ السليم رغم العقبات.

للواقعية وللحقيقة نقرر أن وجود الاحتلال الإسرائيلي في القدس العربية وضمها من قبل الاحتلال الإسرائيلي لكيانه واعتبارها عاصمة له، يشكل عقبات كأداء بدون أدنى شك للعملية الانتخابية في فلسطين ومنها القدس العربية. وان هذا الموضوع يحتاج إلى حلول خلاقة مبدعة تتناسق مع السيادة الفلسطينية وشرعيتها رغم انف أوسلو وملحقاته وتبعاته.

اتفاقيات أوسلو ولدت ميتة وباطلة ولاغية لمخالفتها اتفاقية جنيف الرابعة والشرعة الدولية لحقوق الإنسان وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، فضلا عن انتهاء مدتها بعام 1999. وبالتالي هي غير ملزمة للشعب الفلسطيني ولا للدولة الفلسطينية.

حتى لو اعتبرنا اتفاقيات أوسلو قائمة جدلا، فهي تحدد بشكل تحكمي خمس مراكز بريدية فقط لممارسة حق الإنتخاب لللشعب المقدسي الفلسطيني. وهذا تقرر عام 1994 بينما زاد الشعب الفلسطيني المقدسي نسبة كبيرة إلى هذا اليوم ولم تراع هذه الزيادة في أوسلو لأنها كانت ستنتهي عام 1999. وللبيان هذه المراكز البريدية الخمسة الضيقة المحدودة بالكاد تقدم الخدمات اليومية العادية وهي دائما في حالة ازدحام شديد وفي كل الأوقات بل هناك شكوى وتذمر من خدماتها على جميع الصعد. فهذه المراكز القائمة في باب الساهرة وباب الخليل والطور وشعفاط وبيت حنينا هي اصغر من محل بقالة أو مكتب محاماة ما عدا بريد باب الساهرة، وهذا يعني أن قدرتها الاستيعابية على وضع صناديق اقتراع وموظفي اقتراع ومراقبي اقتراع أمر مستحيل بكل معنى الكلمة. بل إن جميع هذه المراكز ما عدا باب الساهرة لا تملك وجود أكثر من مقترع واحد حفاظا على قيد السرية في الانتخاب فضلا عن الضغط النفسي للمقترع ترهيبا وتفزيعا. وبالتالي ستكون حصيلة هذه المراكز طيلة ساعات الإنتخاب ولو ضممنا بريد باب الساهرة هزيلا لن يتجاوز نسبة اثنين أو ثلاثة بالمائة على أحسن تقدير ولن يزيد عن بضعة آلاف في أحسن الأحوال. فهل هذا انتخاب بالمعنى الحقيقي للكلمة؟

المقدسيون يقارب عددهم 350000 فهل من المعقول أن نكتفي بانتخاب ألفين أو ثلاثة آلاف منهم وكفى الله المؤمنين شر القتال.

من هنا بدأت اقتراحات وجيهة مثل وضع صناديق اقتراع في باحة المسجد الأقصى وكنيسة القيامة ومساجد وكنائس أخرى والمدارس الخاصة وهو أمر يقتضي استعدادا مسبقا وبرنامجا لوجستيا في حاجة لتخطيط وإعداد وليس دعوات عاطفية. والأمر ذاته ينطبق على اقتراح وضع الصناديق لدى القنصليات الست الأجنبية القابعة في القدس إن قبلت وهي لن تقبل بغضب الإسرائيليين ورضاء الفلسطينيين في الوقت ذاته، ولن تقبل ازدحاما شديدا في مقراتها من أجل عيون الفلسطينيين، فضلا عن صعوبة تنفيذه. وكم كان مطلوبا لو أن لجنة الانتخابات المركزية وضعت برنامجا إلكترونيا استباقيا للانتخاب في القدس، كما حصل في الولايات المتحدة الأمريكية، دون الحاجة إلى اكتظاظ أو ازدحام في زمن الكورونا، وجنبتنا ابتزاز الإسرائيليين ومشتقاتهم.

لليوم لم تعلن السلطة الإسرائيلية عن موقفها من إجراء الإنتخابات في القدس العربية، وتتلكأ في اتخاذ قرارها، وهو واضح بالرفض المطلق. فليس من الصعب توقع قرار نتنياهو واليمين الإسرائيلي، لكن الأصعب انتظار قرار سيادي فلسطيني للموافقة الإسرائيلية. مهما كان الاحتلال الإسرائيلي وبطشه وقوته العسكرية، لكن كل ذلك يجب أن لا يمنع الدولة الفلسطينية من إجراء هذه الإنتخابات رغم أنف الاحتلال الإسرائيلي وحبرا عنه، تأكيدا لسيادة الشعب الفلسطيني على مدينته كما حصل في الأيام الأخيرة وهبته الجماهيرية، وانتصارا لدولته واستقلالها. فلا يعقل ولا يقبل ولا يستقيم أن تسأل دولة فلسطين الفتية دولة أخرى السماح لها بإجراء سيادي ألا وهو إجراء انتخاباتها النيابية من عدمه.

يتحجج الكثيرون بأن عدم إجراء انتحابات في القدس هو قبول بالسيادة الإسرائيلية على القدس العربية أو على الأقل تخلٍ أو تجميدٍ أو تعليقٍ للسيادة الفلسطينية على القدس العربية. هذا هو أخطر الأمور وأصعبها، وهو قول حق قصد به باطل، وهو يقتضي سؤالا جوهريا هل السيادة للشعب أم الأرض؟ ومن يمارس السيادة هل هو الشعب أم الجماد؟

يجمع فقه القانون الدستوري والدولي أن السيادة هي للشعب يمارسها بالنيابة عنه حكامه، فمالك السيادة الوحيد هو الشعب والحاكم لا يملك السيادة بل هو يمارسها نيابة عن صاحبها الحقيقي وهو الشعب. وهذا يقود إلى سؤال افتراضي آخر ما قيمة السيادة الفلسطينية على القدس الأرض والتراب بدون شعب فلسطيني مقدسي. وما قيمة المسجد الأقصى كبناء حجري بدون مسلمين فلسطينيين مقدسيين. لنتذكر أن العرب مكثوا في الأندلس مئات السنين وتركوا إرثا حضاريا مميزا، فهل هذا يعطينا سيادة على تلك الأراضي؟!

المهم أن يمارس المقدسيون الفلسطينيون حقهم في الانتخاب في الأماكن الشرعية الطبيعية الأقرب لمكان إقامتهم التي يختارونها وبحرية كافية. وقد جرت الانتخابات السابقة على هذا المنوال. فضلا عن أن القدس تنقسم إلى عدة أقسام ولا تأخذ حكما واحدا: واحدة؛ داخل الجدار حيث القوة العسكرية الإسرائيلية واضحة وبينة ؛ وثانية في جوار الجوار ككفر عقب حيث يسكنها معظمها مقدسيون؛ وثالثها قرى القدس كالعيزرية وبدو والقبيبة وبيت سوريك ومخماس وأبو ديس وبين أكسا وغيرها . ببساطة يمكن أن تعيق سلطة الاحتلال الإسرائيلي إجراء الإنتخابات الفلسطينية في كل مكان وليس في القدس حصرا، لكن المسؤولية ستكون إسرائيلية حتما عليها وستوجه لها سهام النقد والتجريح.

شكلت الديموقراطية شرطا أساسيا للاعتراف بحقوق الإنسان الأساسية إلا أنها لا تكفي بحد ذاتها لتأمين التمتع الفعلي بها دون الحق في الانتخاب وتقلد الوظائف العامة والمشاركة السياسية والوضول لسدة الحكم حتى لا ينقلب الحكم إلى حكم بوليسي أو استبدادي شمولي، فالانتخابات واجب الجميع وليس واجب أحد ولولا الأمل لانفطر الفؤاد!