أسوار اللقاح!

أخبار البلد-

 
سيمضي وقت طويل قبل أن نعرف كل الآثار المترتبة على جائحة «كورونا». هناك آثار ظاهرة مثل التداعيات الاقتصادية التي يمكن حصرها بشيء من السرعة والدقة، وهناك أيضاً آثار غير ظاهرة بالكامل حتى الآن، ويتوقع أن تتضح مع مرور الوقت مثل السلوكيات التي قد تتغير، أو الآثار النفسية الناجمة عن فترات الإغلاق الطويلة وتعطل الحياة الطبيعية، أو الدروس التي يمكن توظيفها مستقبلاً لتفادي أو لمواجهة جائحة أخرى، وربما لتطوير التعاون بين الدول بعد الفجوة الهائلة الجديدة التي ظهرت بين الدول الغنية والفقيرة نتيجة السباق العالمي للحصول على اللقاحات.
فحتى الآن تم إعطاء لقاحات لنحو 5 في المائة فقط من سكان العالم، لكن توزيع الكميات المحدودة التي أنتجت في الدول الكبرى أساساً، افتقد للتوازن والعدالة، إذ ذهبت النسبة العظمى من اللقاحات للدول الأكثر ثراءً. وخلال الأشهر الثلاثة المقبلة، تهدف الدول الأوروبية لإعطاء المصل لما بين 50 في المائة إلى 75 في المائة من سكانها. أما أميركا فأعلنت أنها قد تنتهي من تطعيم كل سكانها البالغين بنهاية مايو (أيار) المقبل، في حين أن ما يقرب من نصف بلدان العالم لم تطعم حتى 1 في المائة من سكانها. حجم هذه الفجوة يزداد اتساعاً إذا أخذنا في الاعتبار أن نحو 40 دولة، معظمها من بين أفقر دول العالم، لم تبدأ أصلاً برنامجاً وطنياً للتطعيم، وتمثل هذه البلدان نحو 8 في المائة من سكان العالم. ففي أفريقيا على سبيل المثال، نجد أنه من بين 54 دولة تمكن 3 دول فقط من تلقيح أكثر من 1 في المائة من سكانها، وهي المغرب وسيشيل وساوتومي، وهاتان الأخيرتان تخطتا هذه النسبة لأن تعداد سكانهما صغير جداً.
هذه الفجوة ستكون لها تداعيات كبيرة في المدى القريب لأن الدول التي ستكمل تلقيح 70 أو 80 في المائة من سكانها وتصل إلى ما يسمى «مناعة القطيع»، سيكون بمقدورها إنهاء إجراءات الإغلاق والعزل، واستعادة دورة نشاطها الاقتصادي، واستئناف الناس حياتهم الطبيعية، ولو مع بعض الاحترازات وإجراءات الوقاية، في حين أن بقية الدول ستبقى ترزح تحت عبء «كورونا» لفترة طويلة قادمة يتوقع ألا تقل عن سنتين وربما تزيد بالطبع.
في ظل هذا الوضع بدأت بعض الدول وشركات الطيران والسفر والسياحة تبحث استخدام «جواز سفر اللقاح»، أي اعتماد بطاقة أو شهادة تتيح لمن تلقوا التطعيم السفر والتنقل من دون قيود كبيرة بين الدول التي حققت نسبة عالية في التطعيم. بريطانيا التي أعطت اللقاح حتى الآن لأكثر من 32 مليوناً من السكان وتخطط لإعطاء 21 مليوناً آخرين بنهاية يوليو (تموز) المقبل، تدرس ما تسميه «نظام إشارات المرور»، أي ربط السفر بتصنيف الدول وفقاً لدرجة مخاطر الفيروس فيها. وستصدر الحكومة لوائح تدرج فيها الدول إما في اللائحة الخضراء أو الحمراء أو ذات اللون العنبري. فالأشخاص الذين يصلون من الدول في الفئة الخضراء لن يتحتم عليهم عزل أنفسهم، في حين أن الواصلين من الدول في اللائحة العنبري عليهم حجْر أنفسهم لمدة 10 أيام وإجراء فحص مرتين قبل الخروج من العزل. أما الدول في اللائحة الحمراء فتعتبر محظورة ولا يسمح للقادمين منها بالدخول إلا إذا كانوا رعايا بريطانيين وفي هذه الحالة يتم حجْرهم في فندق على نفقتهم الخاصة لمدة 10 أيام وعليهم أيضاً الخضوع للفحص مرتين.
هذا النظام الذي يتوقع أن يطبق بنسخ مختلفة في كثير من الدول التي قطعت شوطاً في التطعيم، قوبل بانتقادات من بعض الجهات التي قالت إنه يؤسس لنظام «فصل عنصري طبي»، لأنه سيحرم مواطني كثير من الدول الفقيرة أو التي ما تزال جائحة «كورونا» منتشرة فيها على نطاق كبير، من حرية السفر التي سيتمتع بها مواطنو الدول التي نجحت في برامج التطعيم وكبح جماح الفيروس. لكن من ناحية منطقية فإنه لا بد من تقبل فكرة أن كل دولة حريصة على حماية نفسها من دخول نسخ متحورة من الفيروس تنشر الجائحة من جديد وتحبط فاعلية التطعيم.
 
يبقى أن الحل هو العمل على سد فجوة توزيع اللقاحات وهو أمر أمامه عقبات مثل عدم توفر كميات كافية من اللقاحات، وضعف إمكانات الدول الفقيرة التي لا تستطيع توفير الأموال كي تنافس في سوق اللقاحات. وحسب قاعدة بيانات «بلومبرغ»، التي تتابع نسب التلقيح وجغرافيتها، فإن 40 في المائة من اللقاحات التي وزعت حتى الآن ذهبت لـ27 دولة، على رأسها الولايات المتحدة والدول الأوروبية. وتشكل هذه الدول الـ27 نحو 11 في المائة فقط من سكان العالم. بعبارة أخرى، البلدان ذات الدخل المرتفع تعطي سكانها اللقاح 25 مرة أسرع من البلدان ذات الدخل المنخفض.
فأميركا بعدد سكان يبلغ نحو 4 في المائة من سكان العالم لديها 24 في المائة من اللقاحات العالمية، بينما دول مثل باكستان، لديها 2.7 في المائة من سكان العالم نصيبها من اللقاحات 0.1 في المائة. ومقابل نحو 250 مليون شخص تم تطعيمهم في أميركا وأوروبا، تم تطعيم نحو 70 ألف شخص فقط في أفريقيا التي يبلغ عدد سكانها 1.2 مليار نسمة.
هذه الفجوة الضخمة ساهم فيها أولاً أن الدول الغنية هرعت لشراء مليارات الجرعات من اللقاحات مسبقاً، بما يكفي لتطعيم سكانها عدة مرات، بينما الدول محدودة الدخل لم تكن لديها القدرة المالية على شراء اللقاح بكميات كبيرة، ولا القدرة العلمية والتصنيعية على إنتاجه داخلياً. حتى بعد أكثر من عام على إعلان «كوفيد 19» جائحة عالمياً، لا توجد آلية دولية ناجحة لضمان التوزيع العادل للقاحات. فمقترح منظمة الصحة العالمية لتوزيع أكثر عدالة لا يجد آذاناً صاغية.
وأكثر المنتقدين لهذا العجز هو مدير منظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس الذي حذر من أن العالم «على شفا فشل أخلاقي كارثي» بسبب فجوة توزيع اللقاحات. وقال في الذكرى الأولى لإعلان «كوفيد 19» جائحة عالمية إن منظمة الصحة اقترحت أفكاراً محددة، من بينها أن تعطي شركات الدواء الكبرى حول العالم مثل «فايزر» و«أسترازينيكا» و«موديرنا» حق إنتاج اللقاح للدول الفقيرة ولشركات الدواء الوطنية حول العالم بأسعار مخفضة لتسريع وتيرة إنتاج وتوزيع اللقاح بعدالة، مقابل دفع تعويض مالي معقول لتلك الشركات، أو أن تتنازل هذه الشركات مؤقتاً عن حقوق الملكية للقاح لإفساح المجال لإنتاجه بمعدلات كافية لتطعيم أكبر نسبة من سكان العالم في أسرع وقت ممكن للتغلب على الجائحة ومنع حدوث تحورات جديدة وخطيرة من الفيروس لا تستجيب للقاحات الموجودة حالياً. إلا أن شركات الدواء الكبرى حول العالم ترفض حتى الآن فكرة التنازل المؤقت عن حقوق الملكية الفكرية.
وبوتيرة التطعيم الحالية لن يمكن إعطاء لقاحات ضد «كوفيد 19» تكفي لتكوين «مناعة قطيع عالمية» قبل نهاية 2022 أو 2023 أو ربما حتى 2024. ما ستكون له تداعيات عالمية خطيرة صحياً واقتصادياً وسياسياً وأخلاقياً.
رئيس الوزراء البريطاني الأسبق غوردن براون كتب في صحيفة «الغارديان» البريطانية قبل أيام منتقداً «أبارتيد اللقاح»، داعياً الدول الصناعية الكبرى لتخصيص 30 مليار دولار لدعم حملة التطعيم عالمياً. وحذر من أن تجاهل الدول الغنية للدول محدودة الدخل ستكون له تداعيات على الدول الغنية. فالاقتصاد الأميركي والأوروبي لا يمكن لهما التعافي لو ظلت هذه الدول «جزراً معزولة» تغلق أبوابها أمام حرية الانتقال والسفر والعمل والدراسة.
ما أظهرته الأسابيع الماضية هو أن «دبلوماسية اللقاحات»؛ حيث تتبرع أميركا وأوروبا والصين بكميات محدودة هنا وهناك، أو تعطي تمويلاً محدوداً لبرنامج «كوفاكس» الذي ترعاه منظمة الصحة العالمية لتوفير اللقاحات للدول الفقيرة، ليست استراتيجية كافية ولا ناجعة للتصدي للجائحة. المطلوب هو تعاون دولي جاد لتوفير اللقاحات لكل الدول بأسعار معقولة للدول الفقيرة، وإلا فإننا سنبقى تحت رحمة الجائحة فترة طويلة، يعيش فيها العالم مقسماً وراء الأسوار الجديدة التي فرضتها فجوة اللقاحات.