قراءة في نتائج الانتخابات وأقل من تلخيص

اخبار البلد ـ لا أحد يملك العصا السحرية لإعطاء الجواب حول ما حصل، سوى بعض المثقفين والسياسيين السابقين الذين لديهم الجواب الجاهز: "قلنالكم".

ولا أظن أن تيارا أو تنظيما سياسيا يقع خارج أزمة السياسة أو أزمة استعصاء الحلول والمخارج، ومن الأسهل على الإنسان أن يرى القشّة في عين من يقابله ولا يراها في عينه هو، لكن أي من الأحزاب والحركات السياسية لا يستطيع أن يجاهر بأنه غير مأزوم، سواء تلك التي تشارك في الانتخابات للكنيست أم التي لا تشارك، أم التي تقاطعها.

لا يوجد إطار سياسي لم يتأثر بالحالة العامة ومن تسرّب نفوذ الدولة ومن أثر التحولات الاجتماعية والسياسية. إن ما نشهده بالإمكان أن نطلق عليه أزمة الثقافة السياسية الوطنية السائدة والتي شكلت أساس تنظيم المجتمع الفلسطيني في الداخل وحققت وراكمت إنجازات يشهد لها، وبالذات في سؤال البقاء والصمود والتطور، وفي السياسة والثقافة والمجتمع.

لكن سؤال الدولة يعود بقوة إلى صميم تنظيمنا. هيمنة الدولة اليوم هي مسألة غاية في التأثير وفي إحداث التحولات. إن ما نعزوه إلى ألمعيات نتنياهو وفذلكاته والتحولات في خطابه تجاه هذه الجماهير، ليس مسألة الليكود أو دهاء رئيسه بل قوة ونفوذ الدولة. وأعتقد لو افترضنا أن حزب العمل التاريخي كان في السلطة اليوم لكان وضعنا أصعب، لأنه في عقيدته تكمن روح الوصائية والاستعلاء والضبط والهندسة السياسية للولاء.

عن الجبهة والتجمع

نتائج الاقتراع هي ليست نتائج الانتخابات، بل أن نتائج الانتخابات وما تعكسه فيها مؤشرات لانقلاب في النخب وصدارة المشهد، سواء كان ثابتا أم حدثًا عابرًا، فإننا بصدد حدث متدحرج لم تتوقف تداعياته، ولا ينحصر في نتائج التصويت وعدد النواب فحسب.

كما لا بد أن ترتد النتائج الحاصلة على الوضع داخل الأحزاب وتدخلها في أزمة استيعاب الأزمة والإخفاق، وبالذات الجبهة والتجمع. قد تكون هذه العملية منقذة وأساسًا لانطلاقة متجددة، وقد تكون العكس.

سيقوم التنظيمان - الجبهة والتجمع - بتقييم الوضع ودراسة الإخفاق، وأتمنى أن تتوفر لدى كلّ منهما القدرة والأدوات والجرأة لاستخلاص العبر، وإعادة التوازن نحو الانطلاق.

ويأتي التشكيك هنا ليس من باب القدرة السياسية أو التحليلية، بل لأن الإطارين يتأثران بدرجات متفاوتة بتحديات داخلية تبلورت باتجاه قوى متصارعة لها محرّكات خارجية تمثل مصالح متضاربة، وليس بالضرورة على صراعات شخصية التي تبقى الأسهل للعلاج، والكثير منها يعود إلى تأثرهما بالمتغيرات العميقة في البنية الاجتماعية الاقتصادية، والتي تسارعت مع تصاعد التوقعات من الدولة في مسألتين جوهريتين، وهما مواجهة جائحة كورونا ومحاربة الجريمة المنظمة. يضاف كذلك تسلل الأثر الزاحف للمال السياسي، الذي تجلّى أكثر ما تجلّى في الحملات الانتخابية، والتي تستر منذ أواخر التسعينات وحتى اليوم في "رفع نسبة التصويت" ومن "خلي الصوت يقرر" حتى "شركاء في المصير شركاء في الحكم".

سأتطرق هنا إلى بعد واحد من إغداق المال السياسي لصنع النجومية على حساب الحزب السياسي، وبالذات من الجناح الديمقراطي بين التنظيمات اليهودية الأميركية ومصالحها السياسية والاقتصادية، ورؤيتها لإسرائيل كدولة "يهودية ديمقراطية"، وذلك بصفته ليس مسألة مالية فحسب، بل استثمار قائم على فكرة أنّ التأثير على نخب محددة مجدٍ، وهو الطريق للتأثير على الثقافة السياسية والأطر الحزبية.

لقد نجح هذا المال بشكل كبير، لكن باعتقادي ولحسن الحظ غير حاسم، في صناعة نخب تسير في المسار المعني به وأحيانًا دون أن تشعر بذلك أو لا تعترف، بما في ذلك أهدافه في زيادة نفوذ الدولة وسعيها للهيمنة على نمط سلوك الفلسطينيين المواطنين فيها.

إن ما يحصده المال السياسي هو مشروع سياسي للمُمَوِّل، وهو إفساد سياسي للذين يقبلون به وبالذات النخب المنصاعة. ليس مطلوبا من هذه الأوساط أن تغير خطابها الوطني المجاهر به، بل تغيير سلوكها السياسي.

فمثلا، تستطيع نخب التمويل أن تجاهر بفلسطينيتها ووطنيتها وبعدائها للمشروع الصهيوني الاستعماري الاقتلاعي، لكنها في الوقت نفسه تنظّر لزيادة مراقبة الدولة وأجهزتها الأمنية والاستخباراتية في بلداتنا، تحت مسمى محاربة الجريمة.

وباتت هناك نخب من طراز آخر، تعارض المال السياسي وتنظّر ضده وضد الحركة الوطنية باسم عبثية إستراتيجية العمل البرلماني، فيما تربطها مصلحيًا علاقات عمل واستفادة مع نخب التمويل، تحت مسميات العمل المهني من علاقات عامة، وترجمات، وتحرير وإعلام.

كل ذلك لم يكن ليؤثر على تيار الإسلامية الجنوبية والموحدة خاصة بالنهج الذي قاده د. منصور عباس، وأصبح لاعبًا سياسيًا قوي الحضور، لأنه متناغم معه ولا يشكل تهديدا لأولويات الدولة، بل تيسير أولوياتها الداخلية والإقليمية. وسوف يجري التطرق في نص آخر للمال السياسي بمفهومه الواسع، بما فيه من السلطة الفلسطينية وكذلك الإقليمي الخليجي العربي والتركي حديث العهد نسبيا.

نهاية نمط القائمة المشتركة؟ فماذا بعد؟

من المستبعد جدًا أن يعود نموذج القائمة المشتركة إلى تكرار ذاته في المدى المنظور، فالانقسام عميق والشرخ الذي أحدثه لا يمكن تجاوزه بخطاب الوحدة.

حتى ولو اجتمعت مركباتها في قائمة في انتخابات قادمة، فإنها تكون قد فقدت مصداقيتها قبل أن تلتئم. وتشير قراءة نتائج الانتخابات إلى عزوف الناس عن نمط العمل هذا.

إن فقدان الثقة من قبل الجمهور الواسع لا يعني بالضرورة تغير في المواقف السياسية والوطنية للناس، بل قد يكون فقدان مصداقية من يطرح نفسه كممثل للناس حين تغيب كل هذه المقومات، فإن اللاصق الاجتماعي السياسي للقائمة حتى بتركيبتها الحالية قد تآكل.

لقد قامت القائمة المشتركة على أساس وحدة المصلحة بين القوى السياسية، وبالذات لتجاوز رفع نسبة الحسم، والذي حصل بدوافع عنصرية لمنع التمثيل العربي. وشكّل تحالف المصلحة أمرًا شرعيًا بحد ذاته، وفرض نفسه على مجمل السياسة الإسرائيلية.

لكن سوء الأجواء وعدم تحويلها إلى مشروع وحدوي كما تمنت الناس، جعلها تخسر هي أيضا مصداقيتها. لا يكفي الحديث عن شعار الوحدة، بل إن الوحدة ينبغي أن تكون واعدة وقبل ذلك أن يكون فيها حدّ معقول من الصدق، وأن تكون سياسية، وأن تكون وطنية.

كما ينبغي للوحدة أن يكون لها هيبة حضور قيادي، لا تنافس على النجومية الفردية. وما فرضته القائمة الموحدة بخروجها من المشتركة بات أمرا واقعا وانشقاقا إستراتيجيًا.

وعليه، يبدو أننا سنعتاد في المستقبل إلى منظومة الكتلتين، ويعني هذا أيضا أن الساحة تتسع لأحزاب وحركات جديدة سواء ما يعتمد الإستراتيجية البرلمانية أم غير البرلمانية.

وحسب النتائج أيضًا، سيكون تحدي نفوذ الأحزاب الصهيونية قويًا على جدول الأعمال السياسي. لكن المسألة ليست مجرد نفوذ الأحزاب الصهيونية في الانتخابات، بل تعاظم دور الدولة في حياة جماهير شعبنا الفلسطيني في الداخل، والذي تسارع بوتيرة غير مسبوقة في ظل وضع الطوارئ الشامل بسبب كورونا وفي ظل الجريمة المنظمة ودور الدولة فيها واعتمادها فرصة لأجهزة الضبط السياسي وهندسة الولاءات والأمزجة العامة.

ومع ذلك، لا أظن أنه سيكون كافيًا أن تقوم الأحزاب المعنية بتقييم ما جرى واستخلاص العبر، بل هناك ضرورة لمشروع يجمع القوى الوطنية سواء من يشارك في انتخابات الكنيست أم يقاطعها، فيه بلورة تصور لانطلاقة في بناء المرجعيات وإعادة الاعتبار الفعلي للجنة المتابعة وإحداث انطلاقة فيها، وتعزيز كيانية دورها كي نحافظ على كياننا الجماعي؛ وأن يكون قادرا على بلورة تصور لبعدين ضروريين، أحدهما هو علاقتنا مع شعبنا الفلسطيني وموقعنا فيه، والآخر هو كيف نتعامل مع الدولة ودورها المتعاظم.

في الخلاصة، ليست نتائج الانتخابات هي نهاية المطاف ولا الأزمة الحالية، بل ربّ أزمة ولّدت انطلاقة؛ لقد لخص توفيق زياد في حينه أحد أهم الدروس الفلسطينية بعد النكسات حين قال: "يا بلادي أمس لم نطفُ على حفنة ماء... ولذا لن نغرق الساعة في حفنة ماء". عن "عرب ٤٨"