المصلحة الجيوسياسية تكمن في وجود عالم متعدد الأقطاب

اخبار البلد - بحلول عام 1945 أصبحت الولايات المتحدة تملك السيطرة الاقتصادية الكاسحة وتحرّكت لترتيب أمر النظام العالمي، وفق خطط وضعت استجابة لحاجيات أمريكا، في عالم تعتزم أن يكون لها فيه سلطان لا ينازع. ومنذ ذلك الحين والولايات المتحدة تعمل على تقييد سيادة أي جهة قد تشكّل تحديا لها. وبدا واضحا أنّ النظام العالمي الجديد الذي وضعت أمريكا قواعده، يجب أن يكون خاضعا لمتطلبات الاقتصاد الأمريكي، وقابلا للتحكّم والضبط السياسي قدر المستطاع. وبدأت تعمل على تفكيك المنافسين الاستراتيجيين، والحد من سطوة الإمبرياليات. وهو ما حدث مع بريطانيا، ثم مع الاتحاد السوفييتي

واليوم تجد أمريكا نفسها في مواجهة تعاظم قدرات الصين وتزايد نفوذها الاقتصادي والعسكري والمالي. وهكذا تتّسع المخاوف بشأن احتمالات تحالف جيوستراتيجي بين موسكو وبكين للسيطرة على النظام العالمي، وبالحد الأدنى إعادة توزيع القوة الاستراتيجية، وبالتالي تقلّص التحكّم الأمريكي بالثروة العالمية. من هنا يُفهم التصعيد الذي يصدر على لسان الرئيس الأمريكي جو بايدن ضدّ روسيا والصين. وهناك خوف من الوحدة الأوروبية التي اتّسمت مواقف واشنطن منها بالتعقيد على الدوام، وتشجيع بريطانيا على الخروج من المنظومة (البريكست) إنّما سببه الخطر الذي تتحسّسه أمريكا في ما لو انتهجت أوروبا سبيلا خاصا بها، ساعية إلى لعب دور مستقل عن الولايات المتحدة. ولكن حاجيات المجتمع الأمريكي تفترض بلا شكّ أن يهتم الرئيس بايدن بالأوضاع الداخلية، وأن يعيد ترميم الانقسام المجتمعي الحاد، ويعالج مشكلة العنصرية، ويقدم برنامجا شبيها بذلك الذي مثل مبادئ الجناح التقدمي في الحزب الديمقراطي أيام الرئيس فرانكلين روزفلت، حيث وضع مبدأ «النيوديل» الذي استند إليه رخاء الدولة الأمريكية في فترة ما بعد الحرب، عبر تشجيع الانتعاش الاقتصادي والإصلاح الاجتماعي وتوفير الوظائف، وإصدار قانون التأمينات، بدل الاشتغال على المهاترات الخطابية، التي لا تفيد الشعب الأمريكي المتضرر من الوباء ومن سياسات الفوضى التي خلفها سلفه

التعبير الاقتصادي للإطار السياسي الذي أرساه صنّاع السياسة الأمريكية في حقبة ما بعد الحرب أصبح مترنّحا على جميع الأصعدة، وخطة مارشال التي طُبقت بواسطة مظلة القوة الأمريكية نجحت في سياقات تاريخية معينة، لم تعد متاحة مع المتغيرات الحاصلة في العقد الأخير. وحتى أهمّ منطقة من الوجهة الاستراتيجية في العالم وهي منطقة الخليج، التي اعتبِرت في تلك المرحلة أثمن جائزة اقتصادية في مجال الاستثمار الأجنبي، لم يعد من السهل أن ترضخ للإملاءات الأمريكية. وبلدان المنطقة كما بلدان شمال شرقي آسيا تريد أن تقلّص ما تراه تبعية غير مريحة أبدا للولايات المتحدة، ولن تستمر سيطرتها على نفط الشرق الأوسط والممرات البحرية التي تسلكها ناقلات النفط. وفي نظر صقور واشنطن، تعتبر الصين منذ عقود في مقدمة الأعداء المحتملين. وقد تم إعداد الكثير من التخطيط العسكري والاستراتيجي لهذا الاحتمال، والتقارب الذي يحصل منذ سنوات بين الهند وأمريكا، إنما ينبع جزئيا من المخاوف ذاتها، وتمسك واشنطن ببقاء قواتها في شرق الفرات السوري وفي مناطق حيوية من العراق، إضافة إلى تعزيز قواعدها العسكرية الثابتة في بلدان الخليج العربي، إنما يعزّز القلق الذي يساور الولايات المتحدة حول تحكّمها بأكبر احتياطي عالمي من الطاقة الموجود في الشرق الأوسط

تسعى الصين وروسيا لخلق عالم متعدد الأقطاب، وتعارضان إبقاء النظام الدولي تحت هيمنة الحضارة الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة

أن تسلك آسيا فضلا عن أوروبا طريقا أكثر استقلالا، ذاك ما يقض مضجع أمريكا، ولكن حالة الاختلاف لا تعني بالضرورة المواجهة. والحل يكمن في التفاعل على أساس مشترك، وإن قدّر البعض بأنّ الثنائية القطبية مازالت موجودة في العالم كما هي، وبوجودها في مرحلة انتقالية من نموذج عالمي إلى آخر، فهي لاتزال تتسبب بحالة من عدم الانتظام، وغياب الاستقرار في الوضع الجيوبولتيكي في العالم. ومن المؤكد أنّ أحد أبرز أسباب النزاع الذي يحصل بين القوى الكبرى هو خسارة الولايات المتحدة لتفوقها المطلق، على الأقل في المجال الاقتصادي، ناهيك من مؤشرات التراجع في الفضاء التقني والسيبراني والتكنولوجيا العسكرية، في الوقت الذي تتزايد فيه الانتقادات لطريقة قيادة هذه الدولة للنظام العالمي، وسوء إدارتها للنزاعات، وإرثها المشؤوم في تدمير الدول، وإسقاط الأنظمة، ونشر الفوضى. مع أنّ الرؤساء من الحزب الديمقراطي كانوا أكثر اعتدالا، وأكثر ميلا للسلام مع العرب ومع روسيا أيضا، بغض النظر عن مفهومهم للسلام. والرئيس بايدن الذي يراهن على الدبلوماسية طريقا لحل الخلافات السياسية، يبدو هو الآخر أقل تجاوبا مع متطلبات الصهيونية اليهودية، والصهيونية المسيحية المتطرفة، التي انقاد لمطالبها الرئيس ترامب وأعطى إسرائيل كل ما تريده. وهذا طبيعي، فالرؤساء من الحزب الجمهوري يميلون إلى اليمين المسيحي الإنجيلي واليمين التوراتي الأصولي المتطرف. ويكفي التذكير بالرئيس ريغان الذي قصف ليبيا وضرب المفاعل النووي العراقي، وفي عهده وقع اجتياح بيروت، واشتعلت الحرب العراقية الإيرانية، وعمل على إطالة أمدها ليستنزف البلدين. والرئيس بوش الأب شنّ الحرب على العراق، وفرض عليه حصارا ظالما. وفي فترة حكمه تفكّك الاتحاد السوفييتي وحُوصرت الشيوعية، وأكمل ابنه تدمير العراق وأفغانستان متعلّلا بهجمات 11 سبتمبر

تسعى الصين وروسيا لخلق عالم متعدد الأقطاب، وهما تعارضان إبقاء النظام الدولي تحت هيمنة الحضارة الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة. والمواجهة الحاصلة الآن تشكّل جوهر الاختلاف الجيوسياسي، وما يعنيه من رفض وجود مركز واحد للقوة متفوق بشكل كامل، ويعمل على تأمين مصالحه بشكل أناني. بناء على ذلك فإن الجهود المعارضة لتطلعات الغرب، تحاول التخلص من هذه السيطرة وإقامة اقتصاد عالمي متكافئ، غير خاضع للابتزاز الرأسمالي الأمريكي. وروسيا التي تشكّل حلقة ربط في الكتلة الجيوسياسية الأوروآسيوية، وإمكاناتها التقنية والعسكرية الهائلة، تعتبر مركز نواة القوة العالمية القادرة على جمع وتوطيد الحضارات التقليدية الأخرى، على طريق بناء عالم متعدد الأقطاب. ومن الجيد أن يتم تشكيل قاعدة قانونية دولية تهدف إلى تنظيم سبل التعايش، عبر إحياء سلطة الأمم المتحدة بشكل يضمن تنفيذ القانون الدولي، تجاوزا لمرحلة تَحَوّل الأجهزة الأممية إلى أدوات بيد دول بعينها، تبرّر الإجراءات غير القانونية التي تتخذها تحالفات قوية لتشريع الحرب، كما حصل في مناسبات عديدة. وفي مصلحة الجميع أن تتقلّص مظاهر العنف، وأن لا تُستخدم القوة العسكرية وغيرها من أشكال القوة، إلاّ لغرض حماية الشعوب وحفظ الأمن وفق ما هو منصوص عليه في المعاهدات الدولية

كاتب تونسي