سيكولوجية التمرد عند الشعوب !

 
هناك فرق بين الثورة والتمرد في سلوك الشعوب ، ولا نود الإطالة في شرح الفرق هنا ، ولكن يمكن القول ان الثورة منهج تغيير كامل للنظام مرده الى مجموعة عوامل اقتصادية واجتماعية وسياسية لنظام بات غريبا عن المجتمع في مسلكه وثقافته هدفها النهائي هو الحرية ، فيما يُعرف التمرد في الغالب أنه انتصار للنفس وممارسة العصيان والخروج عن الأعراف وتحد للنظام ، فالأول هو انتصار للآخرين والثاني انتصار للنفس ، ويبدو ان ما تعيشه بلادنا هذه الايام وبناء على ما يجري من أحداث شغب شملت معظم محافظاتنا وجامعاتنا هو مظهر من مظاهر التمرد والعصيان ومواجهة جزء من نظام أمني أو اقتصادي وتنفذه قطاعات معينة أو جماعات محددة من المجتمع تخرج إلى السطح عناوين مشكلاتها ، وهي في الغالب تلك التي تعاني الغبن من التمييز و التهميش وغياب العدالة وانتشار مظاهر الفقر والفساد في المجتمع ، فالحديث عن الحراك الشعبي الذي بدأ منذ عشرة شهور لم يكن يتعلق بالميل لتغيير النظام بقدر ما كان يعني تمرد على الاوضاع السائدة التي عاشتها البلاد واوصلت الناس الى ما وصلت اليه من فقر وبطالة وحكم أقلية وعائلية متمكنة نهبت خيرات البلاد وباعت ثرواتها دون وجه حق ودون ملاحقة قانونية وكانت تلقى كل الرعاية والدعم !
فمظاهر التمرد التي اجتاحت بلادنا في مختلف المحافظات والجامعات تتفجر في الغالب لأسباب لا تتعلق بحالة آنية سياسية او اقتصادية ذات التأثير على عموم الناس ، بل يمكن ان تنفجر لمجرد ان يتم توقيف مواطن في احد مراكز الأمن لتثور ثائرة الناس المقربين ويبدأون بإعلان تمردهم لرفض تلك الألية حتى لو كان لمجرد استدعاء للاستجواب ، فالتمرد لا يتعلق بذات الشخص بقدر ما يتعلق بمجموع ضغوطات وجدتها الناس ضآلتها في تلك الحادثة لتتفجر ، ولذلك ، فأن سيكولوجية التمرد التي لم يتنبه لها الحكام في بلادنا باتت هي أبرز ما يعيشه مواطننا باعتباره ذات الشخصية المقهورة سياسيا و المهمشة اجتماعيا والمكسورة نفسيا ،وهنا سيبدو الميل طاغيا" لدى سيكولوجية التمرد لدى الناس نحو تغليب الذهنية الانفعالية المتطرفة على مظاهر التعقل للدافع وتطلق عنان الفوضى ضد أعراف المجتمع وثقافته ، مما يجعلها تحاكي نوازع العصبيات وتناغي دوافع الأصوليات
وتعلن شرعية العصيان ضد سلطة الدولة من جهة ، وتبيح من ثم أعمال السلب والنهب والحرق للمؤسسات ، وكانت احداث الجيزة او الرمثا او معان او الطفيلة لمجرد اعتقال شخص أو استشهاده داخل مراكز الاعتقال او المطالبة بفصل بلدية عن المركز أو غيرها من مظاهر العنف التي اجتاحت بلادنا معايير واضحة على مدى ما وصل اليه الناس في التعامل مع النظام والمعروف بسيطرة سيكولوجيا التمرد على النظام لأسباب يمكن مواجهتها بجلسة عقلاء دون ان تحدث تلك المشكلات ، لكن سلوك التمرد الراهن لدى المجتمع الاردني متعلق بأصول وفصول تاريخ من التهميش والإقصاء والمحاباة والحكم لفئات دون غيرها ولغياب العدالة الاجتماعية وازدياد الفقر والبطالة وغياب الثقة بقدرة النظام على مواجهة تلك التحديات لفشل الحكومات في وضع إستراتيجيات شاملة لمواجهة تلك التحديات ، فكل حكومة تعمل وفق رؤية آنية للخروج من مأزق ، وتاتي الحكومةالتي تليها لتلغي ما بدأت به من قبلها لتبدأ بسياسات جديدة ، وكُل يرحّل تلك المشكلات الى الحكومات التي تلي حكومته ، والأهم من هذا كله ما يتعلق بفوبيا ( مخاوف مرضية ) من عدم قدرة النظام على إقناع الناس ان بلادهم بخير وان مشروع الوطن البديل لم يعد موجودا رغم نفي ومعارضة النظام لتلك الفكرة !
كنا ندقق غالبا في وجوه بعض المشاركين في حراك المجتمع ونسأل عن أسباب الخروج للشارع ، فمنهم من يتحدث عن معاناة تتعلق بضعف مقدرته على تغطية نفقات دراسة ابنائه الجامعية ولا زالوا جاثمين فوق صدره رغم تفوقهم ، ومنهم من يتحدث عن سياسة التهميش لابناء عشيرته او محافظته ، وأخر يتحدث عن ضعف وتدني راتبه بما لا يغطي نفقات المنزل خلا إيجار بيته ، لكنهم يجمعون على مظاهر الفساد والترهل في امتلاك رجل واحد لملايين الدنانير حصل عليها من صفقات وسمسرة وبيع اراض الدولة ومؤسساتها! فيما لا يملك حي او محافظة بكاملها ربع ما حصل عليه ذاك الطاريء من صفقة واحدة ! فأجتمعت عوامل القهر والفقر والتهميش والإقصاء والظلم والفساد في معادلة اجتماعية شكلت لدى المواطن نهوضا و " تمردا " من أجل تصويبها ومعالجتها .
ان ترك عوامل التمرد والسخط قائمة دون مواجهتها سيدفع الناس الى المزيد من اتباع سلوكات اكثر تطورا واكثر خطورة في مواجهة النظام وتحت اي مسمى او حادثة قد تحصل لا فرق في تأثيرها على فرد او جماعة ، والمهم لديهم ان تلوح الفرصة امام الناس للتعبير عن سخطهم وتطوير أدوات المواجهة الى الحد الذي تصبح فيه مؤسساتنا وهيبة بلادنا وانظمتنا مسألة لا قيمة لها، وقد يعجز النظام عن مواجهتها طالما استمرت عملية الاصلاح فترة اكبر ، فمنذ عشرة شهور والبلاد منشغلة بورشات عمل وطنية لم تحقق فيها اي حكومة ولو إنجازا واحدا على مستوى محاكمة فاسد أو إصدار قانون ديمقراطي لتنظيم الانتخابات البلدية او النيابية او الأحزاب، فيما حققت حكومات وشعوب مجاورة او بعيدة متطلبات الإصلاح ومحاسبة الفساد في وقت أقل للحد الذي طالت كل رموز الفساد او النظام ككل في تلك الدول ، لكن الاخطر من هذا كله ان تستفيد قوى وأحزاب ذات برامج سياسية واجندة خارجية لتركب موجة السخط تلك وتوجهها نحو مبتغاها للضغط على النظام لتقديم تنازلات ليست في صالح الناس بل لصالح أجندتها الخاصة ، وهذا ما هو قائم حتى اللحظة في بلادنا ، اذ ان بعض الحكومات تعتقد واهمة ان كل حراك او تمرد سببه خيوط تحركها تلك القوى ولا بد من مهادنتها والعودة اليها والاستماع اليها حتى لو تقدمت نحوها بمزيد من التنازلات التي لا يكترث لها الناس ولم تكن ابدا مبتغاهم ولا أهدافهم في الخروج .