المسوّدة الأولى من التاريخ

اخبار البلد - رغم نصيحتي لشباب الصحافة بتجنب الكليشيهات، أقع اليوم أسير الكليشيه القديم «تغطية خبر اليوم ككتابة المسوّدة الأولى للتاريخ».
في كل أعمالي، كمؤرخ، كانت قصاصات الصحف (بعضها من القرن الثامن عشر) مرجعاً لا غنى عنه لكتابة تاريخ إحدى الفترات.
هل يصلح كليشيه القرن العشرين لزمن سيطرة التواصل الاجتماعي التي جعلت من أي عابر سبيل بتليفون موبايل صحافياً، فينشر ما لا يخضع للمعايير الأولية لمقاييس الخبر الصحافي (ماذا حدث؟، ولمن؟، ومن الفاعل؟ وبشهادة من؟، وأين؟، ومتى بالضبط؟، والصورة من جميع الأبعاد).
جيل همه سبق الآخرين يعتمد على التواصل الاجتماعي كمصدر (ويسيل اللعاب إذا كان من صفحة نجم هوليوودي أو بطل رياضي أو مانيكان بارعة الجمال - طمعاً في جذب القراء والمشاهدين)، وتتحول التغريدة التويترية أو الصورة الفيسبوكية إلى خبر صحافي بلا تدقيق وتأكد مارسه ديسك التحرير لعقود طويلة.
القضية إذن حول مسؤولية الصحافي أمام المهنة والمشاهد والقارئ.
بالنسبة لمسؤوليته كمدون «للمسودة الأولى للتاريخ»، لم أصادف صحافياً واحداً يحفل بها. وكيف يمكنني استخدام المسطرة التي تعلمت بها وجيلي الصحافة من قرابة ستة عقود، لقياس مهنية الجيل الحالي ومصداقيته وتعريفه «لشرف المهنة»؟
في خبر تجاهلته الشبكات والصحف الكبرى، أفتى القضاء الإنجليزي قبل أيام بسابقة في حكم يحمل الصحافي مسؤولية ما يضعه على حسابه الشخصي في وسائل التواصل الاجتماعي، وإخضاعها لقوانين القذف والتشهير، كما حال النشر في أكبر الصحف.
ما بدا في البداية ما صغر البعض من شأنه «كخناقة نسائية» بين صحافيتين من جريدتين متنافستين (من اليسار واليمين)، عبر «تويتر»، تحول إلى قضية دفعت الخاسرة في نهايتها التعويض وأتعاب المحاماة، ونشر اعتذار علني عما غردته ضد منافستها.
أوضحت حيثيات الحكم أن الحساب الخاص على التواصل الاجتماعي يلحق بسمعة المستهدف ضرراً لا يقل عن تشويهها عبر شبكة كـ«بي بي سي» مثلاً؛ فالطرفان ينشران في الصحف الكبرى، وكلاهما «صناع للرأي العام»، الذي تحول إلى مسرح يشاهده مئات الآلاف استعرض «فصل الردح» المتبادل بينهما.
ومع استمرار تلاشي الخط الفاصل بين الصحافة المسؤولة وصحافة عابر السبيل، شهد الأسبوع تغطية فقدت فيها الصحافة كلها عقلها، باستثناءات فردية ضاعت أصواتها وسط صيحات الانتقام النسائية من كل بني آدم.
تغطية تحولت فيها مأساة شابة إنجليزية فقدت حياتها إلى ما يعرفه التراث العربي بـ«قميص عثمان»، والتيارات الآيديولوجية (خصوصاً الحركات النسائية) ترفع صور القتيلة لتسيير المظاهرات وإشعال الحرب بين الجنسين، باعتبار أن بنات حواء مستهدفات من الرجل الذي بطبعه متوحش يريد الإضرار بهن. أما الصحافيون الذكور فكانوا أكثر تطرفاً من النساء، خصوصاً في استهداف البوليس بالانتقاد والهجوم؛ ربما تجنباً لغضب الجنس اللطيف، أو ركوباً للموجة، وعلى الأرجح فقدناهم للجزء الكروموزومي من الهوية التي ولدوا بها.
المقلق مهنياً أن أجزاء كبيرة من الصحافة تحولت إلى تيار سياسي يشن حملات، (وفي قضايا كالبيئة والتسخين الحراري، والحركة النسائية التفوقية، الصحافة كلها تقريباً)، حيث غسل الصحافيون أدمغتهم بأنفسهم ليقودوا الحملة.
المظاهرات اختطفت «بلوزة» الشابة القتيلة لترفعها كقميص القرن الواحد والعشرين. المتهم الوحيد المقبوض عليه، وحدد القضاء خريف هذا العام لمحاكمته بتهم الاختطاف وحبس رهينة والقتل، هو رجل بوليس من القوة المكلفة بالحراسة الدبلوماسية (أي السفارات وكبار ضيوف العاصمة من الزوار الأجانب) والحراسة السياسية (أي حراسة البرلمان ومقرات الحكومة والوزراء).
المسألة المحورية في هذه القضية (وهو سؤال لم يطرحه الصحافيون ومقدمو البرامج الحوارية التي ناقشت القضية) أن أفراد القوة مرخص لهم باستخدام الأسلحة النارية. ولِمَ لم يسأل الصحافيون، المسؤولين، عن الملامح المحددة «للبروفايل السيكولوجي» لرجل البوليس أو الاختبارات النفسية التي يخضع لها قبل تكليفه بحراسة الزوار وحمل أسلحة نارية؟
فالشخص الذي تثبت عليه تهمة اختطاف وقتل شابة تسير في حالها، ليس في حالة عقلية ونفسية سوية تسمح له باتخاذ قرار يتعلق باستخدامه سلاحاً نارياً.
السؤال لم يطرح، لأن الصحافيين في حملتهم التي قادها اليسار النسوي (الذي سيّر مظاهرات غاضبة صاخبة، لخمسة أيام، رغم حظر التجمع بسبب وباء فيروس كورونا) انشغلوا بمطالب لم يكن تطبيق أي منها سيحمي الضحية. المتظاهرون غاضبون لانخفاض نسبة المعاقبين قضائياً بتهم الاعتداء الجنسي؛ ويطالبون بوقف «العنف الذي يمارسه الأزواج والشركاء الرجال ضد النساء والبنات»، والمضايقات التي يتعرضن لها أثناء السير في الشوارع من غزل ثقيل أو تعبيرات غير لائقة أو صفارات إعجاب، وغيرها من اقتراحات غريبة عجيبة. بعض المتظاهرات يطالبن بتدخل الأمن والقضاء في العلاقة الزوجية لتجريم الزوج في شجارات تعتبرها الأغلبية معتادة؛ بل طالبت إحدى قياديات حزب الخضر بفرض حظر تجول على الرجال والشباب مساء يومي الجمعة والسبت ما بين السابعة مساء والحادية عشرة. البوليس بدوره قرر أن يضع «مخبرين بملابس مدنية» في النوادي الليلية وأماكن اللهو لضبط المتحرشين بالنساء.
الغريب أنه ليس بين أي من هذه الاقتراحات ما كان سيحمي الضحية من الاعتداء الذي أودى بحياتها، فلم تكن في ناد ليلي أو ملهى، ولم تتعرض لتحرش جنسي، ولم تكن في حفلة صاخبة أو تحت تأثير الشراب، ولم يعتد عليها زوج أو شقيق أو قريب من الأسرة في شجار، بل كانت تسير في حالها في طريقها إلى مسكنها؛ وحتى لو كان جميع رجال مدينة لندن في بيوتهم بحظر حزب الخضر للتجول، فإن مطبق القانون (رجل البوليس) هو المتهم.
في هيجان ادعاءات أن نساء العالم مهددات من النصف الآخر بالاغتصاب والقتل، وأن أكثر الضحايا هم من النساء، لم يكلف الصحافيون أنفسَهم عناء الاستقصاء.
فحسب أرقام المكتب القومي للإحصاء لعام 2020، كان عدد ضحايا جرائم القتل 695 في إنجلترا وويلز؛ أربعة أخماس الضحايا كانوا ذكوراً والخُمس فقط من الإناث، والعدد الأكبر من الذكور كانوا مراهقين وشباباً دون الواحدة والعشرين، و32 في المائة منهم كانوا ضحايا قاتل غريب لا يعرفونه، بينما الرقم نفسه حوالي 13 في المائة في حال النساء.
هل إذن يمكن اعتبار تقارير التغطيات الصحافية اليوم هي المسودة الأولى التي سينظر إليها باحثو المستقبل عند كتابة صفحات تاريخ العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين؟