تجربة الأردن فـي مكافحة الأوبئة

اخبار البلد - في النصف الثاني من عقد السبعينيات في القرن الماضي، انفجرت أزمة الكوليرا في الأردن. وتداعت الحكومة من أجل وضع حل سريع لمواجهة الوباء. وقد انطوى الأمر على ثلاثة اجراءات أساسية. الأول هو منع انتشار الوباء، والثاني تجفيف مصادره، والثالث اتخاذ الترتيبات العاجلة لتأمين العلاج الضروري. ودارت معركة حامية تضافرت فيها قوى الجيش والأمن مع الكوادر الصحية والبلدية. وسيطر الأردن على الوباء في مدة مقنعة. ولا ننسى جهود رئيس الوزراء آنذاك السيد مضر بدران ووزير الصحة عبدالرؤوف الروابدة والجيش والبلديات في التصدي لذلك التحدي.

وعادت الكوليرا لتنفجر ثانية، في عهد حكومة مضر بدران الثانية، بعدما كانت قد انفجرت في عهد حكومته الأولى 1976-1979 وجاءت في المرة الثانية أقوى، وتبين أن المصدر الأساسي للعدوى أتى من المنتوجات المزروعة في منطقة سيل الزرقاء والتي تُروى منه. وصدر أمر حكومي إلى كوادر الشرطة بالبحث عن المنتجات الزراعية، وبخاصة الخضروات الورقية والمروية من سيل الزرقاء وإتلافها.

ومن كثرة حماس رجال الشرطة آنذاك في جمع الخضار، انطلقوا إلى السوق، وصاروا يصادرون الخضروات ويتلفونها أمام المحلات وفِي المناطق الآهلة بالسكان. وبالطبع فإن الكوليرا تعشق القذارة، ولذلك كانت ردّة الفعل عنصراً مساهماً في زيادة انتشار الوباء بدلاً من الحد منه، والحماس في أداء العمل قد يدفعنا أحياناً إلى ارتكاب أخطاء تعمق المشكلة التي نحاول الخروج منها.

لا شك أن الجراثيم والفيروسات تشكل واحدة من أخطر التحديات التي تواجهها البشرية، فالحصبة التي انتشرت في بلداننا في النصف الأول من القرن الماضي كانت تودي بحياة الآلاف من الأطفال علماً أن المطلوب كان الحفاظ على نظافة جسم المريض. وتبريده عند الحرارة، وإعطائه الكثير من السوائل الساخنة. ولكن هذه المعلومات لم تصبح معلومات عامة منطقية الا بعد موجات من الموت. وتقول بعض المصادر البريطانية أن الحصبة كانت في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي تقتل في بلداننا من 30 إلى 35% من الأطفال المصابين بها، خاصة إذا وقعت في فصل الشتاء البارد.

وأذكر وأنا طفل أن والدتي أخذتني في صيف عام 1951مع أخَوَيّ علي والمرحوم عزام إلى بيت قريب لي كان ابنهم واسمه نبيل العناني الرسام الفلسطيني الشهير مصاباً بالحصبة كي نُعدى منه لأن الموسم كان دافئاً، وخطورة الحصبة تتراجع في المواسم غير الباردة. وكذلك فعل كثير من الأهالي لأنهم لا يرغبون ان يصاب أبناؤهم بالحصبة في فصل الشتاء أو الخريف.

وفِي عام 1963، أُرْسِل خال لي، وهو المرحوم الدكتور عبدالرحمن حسين العناني (أبو فوزي) في بعثة إلى بريطانيا لكي يحصل على شهادة الماجستير في علم مكافحة الأوبئة (Epidemiology) متخصصاً في مكافحة الملاريا والكوليرا، وأصبح فيما بعد مديراً لصحة البلقاء، ومن بعدها مديراً لصحة العاصمة، ولكنه لفرط حبه للسلط عاد إليها ثانيةً مديراً لصحة البلقاء حتى أُحيل إلى التقاعد. وقد كان شديداً في مراقبته. وعمل لفترة مديراً لمستشفى السلط القديم قبل توسعته الحالية والتي كلفت مبالغ طائلة وفاقت في تنفيذها المدة المحددة بست سنوات. ولما خدم خالي عبدالرحمن في العاصمة، كان يدور على المحلات والمطاعم مُتأكداً من نظافتها ولَم تأخذه في الضرب على أيدي المخالفين لومة لائم. وأنا أعرف هذا لأنني خدمت حينها لفترة وزيراً للتموين، وأذكر أعداد المتصلين بي من أجل أن أتوسط لهم لديه، ولَم يكن يقبل مني وساطة لأحد.

وفِي خلال الفترة التي تولى فيها الدكتور عبد الرؤوف الروابدة منصب أمين عمان، تصدى الأردن لمشكلة من نوع آخر. فقد ظهرت في شوارع الأردن، خاصة عمان التي كانت تمتد بتسارع كبير، قطعان الجرادين الضخمة ذات الجرأة العالية في اقتحام البيوت والمحلات التجارية، والأنكى من ذلك أن القطط كانت تفر منها، وقد بدأت الأزمة قبل تولي دولة الدكتور الروابدة منصب أمين عمان، وبادر فوراً إلى وضع خطة متكاملة، والاستعانة بالخبرات، وإحضار السموم، واللحاق بجحور الجرذان حتى تمكن من القضاء عليها. ويسجل له ذلك الإنجاز.

ولو أغمضنا أعيننا لدقيقة لكي نتخيل ما الذي كان يمكن أن يحصل لو أن تلك المشكلة استفحلت حتى استعصت على الحل، فماذا سيكون حالنا في عمان عندها؟

لقد نجح العالم في القضاء على أمراض سارية وأوبئة كثيرة. فمرض الطاعون (أو الموت الأسود) قد شكل واحداً من أكبر التحديات التي واجهتها الانسانية. وقد عرفنا الطاعون في الأردن تاريخياً «بطاعون عمواس» والذي ذهب ضحيته عدد كبير من جيش المسلمين وأهالي المنطقة. ومن أشهر من ماتوا بالوباء الصحابة أبو عبيدة عامر بن أبي الجراح، وشرحبيل بن حسنة، ومعاذ بن جبل وابنه عبدالرحمن، ويزيد بن أبي سفيان، والفضل بن العباس بن عبدالمطلب. وقد طبق عمر بن الخطاب في ذلك الوقت العزل الصحي تطبيقاً للحديث النبوي الشريف.

وقد داهم الطاعون أوروبا في السنوات 1347-1351، وقتل حوالي (30) مليوناً. وقد ظل يعاود الظهور حتى أمكن القضاء عليه في القرن الثامن عشر، حين بدأ عدد السكان في أوروبا يتزايد بقفزات كبيرة.

وكذلك، فإن مرض الجذام الذي كان المسيح عليه السلام يشفي مرضاه منه قبل أكثر من ألفي عام عرفه العرب أيام الحكم الأموي والأندلسي. وكذلك عرف الناس مرض السل أو (توبركيلوسيس). وكلها أمراض سارية جرثومية وتنتقل عبر الهواء، أو عبر الزواحف كالطاعون الذي يرتبط اسمه دائماً بالفئران.

وقد قام العرب في مطلع القرن الثامن ببناء «المحاجر الصحية» حيث ينقل مرضى الأمراض السارية او المعدية إليها ويعزلون. أما الطبيب الشهير «ابن سينا» فقد أوصى ببناء محاجر صحية يُحجز فيها المرضى لمدة أربعين يوماً. ونقلها عنه الأوربيون، خاصة الايطاليون في جينوا وترجموا كلمة أربعين إلى الإيطالية بِ كوارنتين، أو (Quarantine) وما تزال الكلمة تستخدم حتى الآن.

ما بين البكتيريا، والجرثومة، والفايروس، عانت البشرية الكثير، وقد كانت الحروب والدمار والقتل الذي تجلبه معها تسبب انتشار الآفات والأمراض. ويقال أن الأمراض التناسلية المعدية مثل السيلان، والزهري قد عُرفت من قديم الزمان، وكان الأطباء يعالجون مرض الزهري بالقطران. ومن هنا شاعت رواية القاتل البريطاني الشهير جاك الجزار (Jack the Ripper) الذي قتل عشرات المومسات انتقاماً منهن ببقر بطونهن وأحشائهن رداً على نقلهن العدوى إليه. ومن منا ينسى مرض «الايبولا» الذي عرفته البشرية عام 1976 بالقرب من نهر ( ايبولا) في جمهورية الكونغو بافريقيا. وما يزال هذا الفايروس يعاود الظهور في الدول الافريقية خاصة بين الحين والآخر، ولكن العلماء لم يكتشفوا بعد مصدر هذا الفايروس حتى الآن.

ولكن المرض الأخطر الذي أقضّ المضاجع وقتل الآف الناس، هو فايروس «الإيدز»، والذي يهاجم جهاز المناعة في الجسم البشري ويؤدي إلى مقتل المصاب به في معظم الأحيان. ويسمى الآن بمرض نقص المناعة، والفايروس ما يزال موجوداً، وعدد الوفيات التي تحصل بسببه قد تراجعت كثيراً، وأُنفقت ملايين الدولارات من أجل إعداد الأدوية المعالجة له، ولكن المرض الذي عرفته البشرية عام 1920 في ما يسمى الآن بدولة «الكونغو برازافيل» ما يزال موجوداً.

ما ذكرتُهُ هنا في هذا المقال هو غيض من فيض، ولكن يجب أن نتذكر أن هذه الأمراض السارية هي نتيجةٌ لفساد الأرض وفساد الناس عندما يخرجون عن قوانين الطبيعة. ورغم أن المصطلح السائد لهذه الظاهرة هو «تلوث البيئة»، إلا أنني أفضل مصطلح «فساد البيئة». وقد وردت كلمة فساد في مواقع كثيرة في القرآن وكذلك مشتقاتها. وقد ورد لها تفسير وافٍ خاصة الآيه (41) من سورة الروم «ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون». وفِي «تفسير المنار» يُعرَّف الفساد بأنه كل ما يخرج الشيء عن الطبيعة التي خلقها بها الله.

ونحن نقوم بالتحوير والتغيير ظناً منا أننا نحسن صنعاً، ولكننا في الواقع نستبدل النفع العاجل بالضرر الفاحش الآجل. ولهذا، فإن الأمراض السارية التي نعرفها ولا نعرفها وتحوراتها وتطوراتها سوف تستمر. ومن هنا، فإن العالم بحاجة إلى سياسة متكاملة عالمية لمواجهة الخطر. وقد يتشظى العالم حيال المصالح المادية ولكن هذا لا يعفيه من الاتحاد للتصدي لأخطار المخلوقات الصغيرة التي لا تُرى بالعين المجردة، وتستطيع بجيوش خفية أن تتحدى الانسان، وتذكره بضعفه وهو مغتر بجبروته.

نحن في الأردن واجهنا نصيبنا من أمراض كثيرة مثل الجدري والحصبة، والتيفوئيد، والشرية، وجدري الماء، والسل، والجذام، والملاريا، والكوليرا، والزهري، والسيلان، والأمراض الليشمانية المنتقلة إلينا عبر الحيوانات. وخسرنا الكثير من الضحايا. وأخيراً وليس آخراً، واجهنا داء الكوفيد -19 وتحوراته، وتطوراته. وكلفنا ذلك الكثير في الوقت الذي كنّا بأمس الحاجة لتوجيه تلك الموارد لانعاش الاقتصاد. وخلق فرص العمل. ولنا في النهاية تاريخ مشرف في مكافحة الأوبئة والأمراض السارية، ويجب أن نتعلم من درس الكورونا، وأن ننهض إلى بناء نظام للطوارئ يحافظ على الناس وأرواحهم وهذا تحدينا الأساسي في عقودنا القادمة.

لا شك أن ما جرى في مستشفى السلط يشكل تجربة مريرة يجب أن نواجهها بصراحة وصرامة كما فعل جلالة الملك. ولكن وظيفة الدولة أن تحمي حياة المواطن وكرامته. الملك الحسين الذي لم يكن يرى الأمور كما رآها قادة حماس في الحرب والسلم، ولكن لما تعرض قائد حماس خالد مشعل للاعتداء من قبل من أراد دَسَّ جرثومة في جسمه لقتله، كان السلام في كفة وحياة خالد مشعل في كفة أخرى. وكذلك خرج الراحل الشيخ أحمد ياسين من سجون الاحتلال إلى عمان طلباً للعلاج.

نحن كنّا نضع حياة الانسان دائماً في المقدمة. ولكن لما يستشري المرض وَيَعُم، فالأخطاء تحصل، والانتباه قد يتوزع، وقد يتلبد العقل من كثرة الانشغالات. ومع هذا فنحن في الأردن لا نسامح التراخي إن أدى إلى كوارث سواء في منطقة البحر الميت فيغرق أطفال وتجرفهم المياه، أو عندما ينقص الأكسجين عن مرضى الكورونا. كانت تلك الرسالة واضحة دائماً. وهي رسالة إنسانية لا تنازل عنها تحت أي ظرف. والآن، وبعد الدرس القاسي، لا بد أن نكرم الشهداء الذين قضوا في مستشفى السلط باتخاذ الإجراءات التي تحول دون تكرارها. ولو تعاملنا مع كل قضايانا على هذا المستوى من المسؤولية لحولنا المئة الثانية من عمر الدولة إلى فرصة ذهبية للألق الأردني الذي لا يخبو ولن يخبو بإذن الله.