رسومات زكي شقفة عن فلسطين.. حرة

أخبار البلد-

 
تربطني بالفنان زكي شقفة علاقة تمتد إلى أكثر من عشر سنوات بقليل. عرفته غداة عملنا معاً في جريدة "السجل"، حين كان يرسم؛ وأحاول أنا رسماً بالكلمات.

وعلى الرغم من هذه العلاقة الطويلة، إلا أن يوم أمس كان مختلفاً فيها، عندما قيض لي حسن الحظ أن أزور "صومعة الفنان".

بادرني الفنان الذي رسم فلسطين أكثر من سواه، وجدران صومعته تزدان بلوحاته عنها: ما زلنا نراوح في المأساة.. أما رسوماتي عنها فحرة!.

ولا يمكن ان نتذكر فلسطين برغم مرور 72 عاماً على النكبة، على السواد، إلا بكامل البهاء، بكامل الألق والالوان، بكامل الأرض والانسان.

ولاحظت أنه حتى في اللوحات التي قد لا تظهر فلسطين فيها، انها حاضرة في الورق واللون والمدى .. مدى آخر، وفجراً يلوح لعائدين.

إعتذر بملاحظة عاجلة بأن زيارتي له جاءت بدون تخطيط، وأن مرسمه غير مرتب، فقلت: لو رتبت، لما كانت صومعة فنان.

السيدة العجوز التي أمسكت بيد حفيدها، ما تزال تسير، يتدلى من رأسها منديل "الاويا المزركش بالدنانير الرشادية"، بالثوب الفلسطيني، فتشعر أن المسير مستمر، وأن الطفل ذا النظرة الثاقبة لا بد سيكمل الطريق.
كثيرون منا إختزلوا مثل تلك اللحظة مع جداتهم، فما زلت أذكر أن " ستي" من قادتني الى مدرستي الأولى.. وما زالت يدها، بعد أن غادرت هذه الدنيا بخمس وعشرين عاماً، في يدي.

يعمل قلم الرصاص في اللوحة تخطيطاً، فيغدو اللون مجرد تنويع على لحظة ليست عابرة ابداً في تاريخنا.

والسيدة التي تنظر من وراء الأسلاك الشائكة، ترنو إلى ما ورائها، إلى فجر يلي.

وما بين الفتى الذي انحنى يلتقط أحجاراً، لا شك سيقذفها في حركة ثانية، خارج اللوحة، ضد أعداء فلسطين، أعداء الانسان واعداء الحياة، في اشارة الى المقاومة، مرورا بمشهد البنت التي تخط اسم فلسطين في دفترها بكامل الوانها، والفتاة التي تطلق طيراً ليحلق كما أحلامنا في الفضاء، حراً وطليقاً في سماه.. رمزا للسلام في أرض السلام، تتحد بها جميعاً أشكال المقاومة، فمثلما كان الحجر مقاوما ً كان القلم والرؤية الانسانية التي ترمز اليها الحمامة.. في وجه قوى الخراب والاستعمار والدمار.

أغبطك لأنك تفرغت للرسم، فيما أنا عاجز عن التفرغ للكتابة.. عبارة افلتت مني على عجل، فـ "أبو الزيك" كما أحب أن أناديه، المولود في بلدة "عاقر" قضاء مدينة الرملة الفلسطينية عام 1945، عاش يوميات لجوئه موزعاً ما بين غزة ورفح، ودرس في مصر، واستقر في عمان.

رد؛ بهدوء لا يحسد عليه: مثلنا لا يستريح..

حقاً.. فالفن قلق دائم، والفنان الحقيقي صعب أن يتقاعد، خصوصا إذا كان صاحب قضية، ومرتبطا بأولئك الذين ما زالوا تحت الحصار.

يستعد زكي شقفة هذه الأيام لإقامة معرض جديد له، لذا تجده منشغلاً، منكباً على التفاصيل.. فما يرسمه الفنان بَصْمَته في هذه الارض.

اعتراف: لا يعرف "ابو الزيك" إني سأكتب عنه، وإن كان ليس بوسعي أن أرسم كرمه ولطفه ودماثته وبساطته، ولا ذلك النجم المشع بين جوانحه، ولا تلك المدن والقرى والمطارح التي لم تزل تسكن قلبه ولوحاته التي لم يرسمها بعد.. أطيب قلب. فليغفر لي، إذا استطاع إلى ذلك سبيلاً.

اليوم رحل زكي شقفة عن عالمناً، مثلماً أشياء كثيرة جميلة، وبعد وقت قصير من رحيل الدكتور نبيل الشريف وفايز الصياغ وتيسير النجار، أولئك الجميلون الذين لا شيء يرسمهم.. أو يعوضهم.