تعويذة الكاهنة...الجزء الثالث
أخبار البلد-
جلست وفاء السواحلي امام نافذة غرفة المعيشة و وضعت فنجان قهوتها على الطاولة امامها، كان صباح جميل اشرقت به شمس خجولة نشرت بعضا من اشعتها في ارجاء الحي امامها، شعرت بدفئ جميل و هي تستنشق رائحة القهوة التي انتشرت بقوة في ارجاء الغرفة مع خيوط الشمس الذهبية التي اخترقت النافذة و انارت المكان، فبعد عدة ايام من المطر و الرياح اخيرا هدأت العاصفة التي سيطرت على المنطقة لبضعة ايام و ها الشمس تطل مرة آخرى على سماء القاهرة و على حي الزمالك التي اشتاق لها كثيرا، كانت زرقة السماء شيئ رحبت به وفاء بعد الغيوم الداكنة التي لبدة السماء و خنقت االحي الجميل التي سكنت به لخسمة عقود مع عائلتها،
اخذت رشفة من القهوة و استمتعت بمذاقها الراقي ثم اعادت الفنجان بحنو فوق الطبق الصغير امامها، لعشرة سنين مارست نفس الطقس الصباحي بصورة يومية قبل ذهابها الى عملها، كانت تملك محل بيع ملابس في سوق ليس ببعيد عن منزلها و كان له اسمه بين الطبقات الراقية بالمجتمع المصري، فكانت تسافر الى اوروبا من حين لآخر و تختار من مصانع الأزياء احدث الصيحات الأوروبية لتستوردها الى القاهرة، كان محل السنيورة المصرية مشهور جدا بالقاهرة و كان يتردد عليه كل محبي الأناقة و الأزياء الغربية و ذوي القدرة المادية، فاسعار الفساتين و الأثواب لم تكن رخيصة الثمن اطلاقا، و كان من حسن حظها ان اسم محلها انتشر في مصر حيث استطاعت جمع الأرباح الوفيرة من وراء تجارتها الناجحة...خصوصا بعد حادثة اختفاء زوجها المشؤومة منذ عشرة سنوات،
كان زوجها طلعت حمدي صحفياً بارزا بصحيفة نبض القاهرة، و كان له عامود يكتب به مقال اسبوعي في الصفحة الأخيرة يقدم به قضايا اجتماعية و قضايا غامضة لم يتم معالجتها، و كانت جزءا من القضايا التي يعالجها قضايا محلية تهم الشارع المصري مثل قضايا غلاء الأسعار و البطالة و بعضا من الشؤون السياسية، و اعتاد الكتابة من حين لآخر عن المنازل المسكونة او بيوت الرعب حيث اكتشف مع خبرته كصحفي ان تلك القضايا لها جمهورها و عشاقها، و اعتاد ان يعالجها من باب روح المغامرة، فكان السبق الصحفي يدفعه الى السير بدروب غير تقليدية مما كان يشد الناس لمطالعت كل مقالاته، مثل قضية منزل المنية الشهير، فروى سكان المنطقة لفترة من الوقت عن منزل مكون من طابقين تحدث به بالليل احداث مريبة، و كانت الشائعات عن جن يسكنه و يخيف كل من يحاول الأقتراب منه، فقرر فعل امر لم يكن بالحسبان اطلاقا، فذهب في ذات ليلة الى المكان الذي اتضح انه بوسط اراضي خضراء بمنطقة معزولة لا يربطها بالمدن من حولها الا طريق للسيارات، و حتى هذا الطريق كان لا يشهد ضغطا مروريا كبيرا، و قرر المكوث لليلة واحدة ليتاكد من صدق ما يقال حوله، و اخذ معه مقعدا و طاولة و اوراق و قلم و قنديل للضوء و انقطع عن العالم الخارجي لليلة كاملة في هذه المنطقة، فحتى لم يخبر مركز الأمن القريب منه بما يفعل، حاولت وفاء منعه و ردعه عن فعلته و لكن كانت روح المغامرة تشتعل بقلبه كصحفي لسبق كان يحلم به و قد يعد الأول من نوعه بالقاهرة، فذهب رغم ارادتها،
بكت وفاء تلك الليلة بكاءا مريرا حتى ابتلت وسادتها من الدموع التي كانت تنهمر من عينيها، فلم تنم بتاتا و هي تفكر بزوجها المسكين و ما قد يحصل له بذلك البيت المهجور، تحولت ساعات الليل الى ايام و هي تنتظر بزوغ الفجر ليعود لها حيث اخبرها بأنه في الساعة السادسة سيغادر العقار المشؤم بسيارته من المنيا الى القاهرة، و بالفعل صدق بوعده حيث وصل في الساعة الثامنة الى منزله و هو بصحة جيدة لتستقبله وفاء بالقبلات و الأحضان الدافئة، و ما ان جلس ليرتاح من عناء السفر حتى اتصل بقسم الشرطة ليخبرهم بما قد شاهد في تلك الليلة، فكانت الشائعات عن العقار وسيلة استخدمتها عصابة لإرعاب الناس من العقار و ليبتعدوا عنه...فكان مخزن للأسلحة و للمخدرات و قد كان موجودا بغرفة بالبيت حينما استخدموه بتلك الليلة لتخزين بضاعة جديدة....
كانت جلستها في هذا الصباح المشمس مزيج من الذكريات المفرحة و المؤلمة معا، فبالرغم من ارتباطها بطلعت لعشرة سنين الا انها شعرت و كأن الأشهر و الايام مرت بها معه كطرفة عين...و كأنه امس عابر و اليوم فقط قد فارق حياتها، فتارة كانت تبتسم للحظات عاشتها بسعادة معه كافتتاح النوفوتيه الذي حققت بواسطته اجمل احلامها، و الشهر العسل الذي قضياه ببيروت وسط الطبيعة الجميلة بأرقى الفنادق فتخللت زيارتهما رحلات عديدة للاماكن السياحية، و كلامه الجميل المفعم بلغة الحب و الرومنسية سيبقى مطبوع بذهنها مدى الحياة، كانت من اجمل ايام حياتها فكانت سعيدة و مستقرة الحال معه جدا، و بالرغم من عدم انجاب الأولاد له الا ان ذلك الأمر لم يؤثر على حبها الذي عاش في قلبه لسنين طويلة، فكانت هي حبيبته الوحيدة التي اخلص لها، فحتى لحظات خلافهما على بعض الأمور لم تستمر طويلا،
و لن تنسى اليوم الذي اختفى به، نظرت الى الفيلا امامها التي كانت مهجورة لفترة طويلة، كان الحي يلقبها بفيلا الأشباح فما كان احد يجرؤ على دخولها على الأطلاق، فكانوا سكان الحي يرددون انه بموسم الخريف و الشتاء توقظ العواصف الرعدية شبح او جان في داخلها، فكان ضوء مبهم الهوية يتنقل في داخلها...و كان احدهم يمسك بقنديل و يسير باروقتها، كانت الأبواب تطرق بمفردها اثناء نوء العواصف و كانت تسمع من داخلها صيحات و صرخات مريبة، في كل مرة تجتاح القاهرة العواصف الرعدية كانت بحسب شهود عيان تتكرر نفس الشكاوي...الا ان استقرت هي و زوجها طلعت بالحي، فمن عشرة سنين اشترى طلعت الشقة التي تسكن بها حاليا، و سكنا بها سريعا بسبب جمال موقعها و قربها من الصحيفة التي كان يعمل بها، فكانت على مسافة عشرة دقائق بالسيارة، و في يوم من الايام و اثناء هبوب منخفض جوي ذو فعالية عالية في وقت المساء زارهم جار لهم بالشقة ليتعرف عليهم كسكان مستجدين بالعمارة، كان شاب وسيم الطلة على وشك الزواج من امرأة جميلة من اقربائه و احب التعرف على من سيكونوا جيرانه هو و زوجته بالمستقبل، و اثناء حديث تناقشوا به بشتى المواضيع السياسية و الحياتية سأل طلعت من باب الفضول عن الفيلا القديمة مقابل العمارة، فاخبره ما يقال عنها من امور مريبة و كيف كانت موجودة قبل معظم البنيان الحديث بالحي الحالي، اثار الكلام فضول طلعت كثيرا و سرعان ما غادر جارهم لتتفاجئ وفاء بنيته تكرار تجربة المنيا، شعرت بالضيق الشديد من قراره فكانت هي من سيدفع الثمن من شدة قلقلها عليه، لكن لم تتمكن من معارضته فكانت تعرف تماما طبعه العنيد و روح المغامرة التي تزلز كيانه لسبق صحفي جديد،
كانت ليلة مشؤومة، فلبدة السماء الغيوم السوداء المشبعة بالرطوبة و هاجت على القاهرة نوء جبارة انذرت بعاصفة مطرية لا يحمد عقباها، نظرت وفاء الى زوجها الذي كان يستعد لمغامرته المعهودة، كان طلعت وسيم الطلة بالخمسين من العمر حينها، كان ضخم البنية طويل ذو بشرة سمراء و عيون عسلية و شعر اسود كثيف يوحي للذي ينظر اليه بأنه في شباب منتصف العمر، كان عريض المنكبين و مفتول العضلات بسبب ممارسته للرياضة، كان واقف بجانب الخزانة يرتدي معطفه حينما اقتربت منه، نظر اليها نظرة طويلة لتقول لها عينيه الكثير عما في قلبه، اجابت عينيه "أُحِبُكَ انا ايضا كثيرا...املي ان تغير رأيك، اكتب عن اي شيئ آخر غير هذه الفيلا المخيفة، ارجوك اذا كنت تحبني..."
اجابها "انت تعلمين كم انا متيم بك، و لكن وجودي في قلب الأحداث يشحن قلمي بإلهامات كثيرة لا تحضرني بالظروف الطبيعية، هذا ما أشعر..."
"طلعت هذا المكان مهجور منذ عدة عقود، لا تعلم ما في داخله...ارجوك،"
اجاب مجادلا "هذه ليست اول مرة يا وفاء اذهب لاتحقق من امر بيوت مهجورة، ثقي بي انني سأعود اليك...أعدك دائما و اوفي بوعدي...."
قبلها على شفاهها قبلة اشعلت مشاعرها نحوه، فآجابت قبلته بقبلات ملتبهة على شفاهه و ضمته بحنو كبير ذكرتها بما حصل بينهم في ليلة زفافها...شعرت و كأنها تلمس جسده لأول مرة...بل شعرت بعطش عاطفي كبير لم تشعر به من قبل...فارادت ان ترويه بقبلات شفاهها و لمسات بديها على جسده لانه ارعبها و ارغمها على ما كانت تفعله...و بالرغم من واقع الأمر الا ان القدر لم يمنحها هذه اللحظات الرومنسية...ففجأة ابعدها عنه و قال لها "يجب ان اذهب، هذا المنزل سيجلب لي سبق صحفي جديدا قد ينشر لي بالصفحة الأولى من العدد القادم،"
صرخت وفاء متوسلة "حبيبي! اريدك بجانبي!"
قال لها بهدوء "سأعود، ثقي بي،" اخذ دفتره و قلمه وكرسي ليجلس عليه و خرج من المنزل،"
نظرت وفاء من نافذة منزلها المطلة على الفيلا المهجورة، كانت العاصفة بأوجها فكانت تدوي الرعود و تضيئها البروق القوية في كل دقيقة تقريبا، نظرت الى الشارع و شاهدت زوجها يجري الى الطرف الآخر نحو الفيلا و يفتح بوابتها، سار بسرعة بين الأشجار القديمة في ممر طويل هربا من النوء ثم رأتها يفتح باب الفيلا الرئيسي...بعد ساعة من بدأ العاصفة اشتد جبروتها فانهمرت الأمطار على الحي امامها و زادت حدت الرياح ليعلو صفيرها بين الأبنية و المنازل بالحي من حولها، ابتعدت عن النافذة خوفا من ما كان يحصل فقد تحمل الرياح معها الأشياء الخفيفة و تقذفها على المنازل و نوافذ الشقق...جلست على كرسي في الصالة و حاولت نسيان مغامرة زوجها المجنونة، فابتدأت بتصفح صحيفة لمحاولة نسيان ما حدث، حاولت التركيز على بعض من المقالات الفنية و لكن سرعان ما كان يعود تفكيرها الى زوجها و ما قد يواجه بالفيلا المهجورة، قالت في ذاتها "يا ربي ماذا عساي ان افعل لو حدث له سوء، لو تكرر سيناريو فيلا المنيا و تكاثرت عليه اعضاء عصابة ما و قتلوه او ضربوه سأموت قهرا عليه، "
نهضت فجأة من مكانها و ذهبت الى مدخل الشقة، اخذت معطفها من على العلاقة بجانب الباب و ارتدته، فتحت الباب لتخرج و لكن فجأة شعرت بخوف شديد يتملكها، فلم تستطع الذهاب في منتصف الليالي الى هذه الفيلا المهجورة خوفا من توبيخ زوجها لها، عادت الى الصالة و امسكت بالهاتف و قررت الإتصال بصديق لهم، كان اسمه زهدي و كان الصديق الوفي لطلعت، كانت متأكدة بأنه لن يتأخر عن تقديم اية مساعدة لهم، امسكت الهاتف و طلبت رقمه فأجاب الإتصال لحسن حظها، و كان ظنها بمحله فحضر الى منزلها بالرغم من العاصفة الهوجاء التي كانت تعصف بالقاهرة، و فور وصوله الى شقتها اخبرته بما فعل زوجها، ارتسمت علامات عدم الرضا على وجهه و شعر بالخوف الشديد عليه فانطلق ورائه الى الفيلا من دون تأخير، اصرت وفاء على مرافقته من الخوف على زوجها و لكنه رفض رفضا قاطعا و جعلها تنتظره بالمنزل،
كانت تتذكر وفاء ما حصل جيدا مع زوجها من عشرة سنين، و لن تنسى اطلاقا ما حل بها بعد مأساة وفاته، اخذت آخر رشفة قهوة امام نافذتها التي كانت تطل على احد الشوارع الهادئة بالزمالك، كانت تمر بعض السيارات من حين لآخر و كان هنالك بعض المشاة على ارصفة الطرقات، و لكن مما لا شك به ان هذا الحي كان راقيا بطبقة الناس التي تسكنه و شارعه الذي كان يتميز بقلة سير المركبات...نظرت الى الفيلا المهجورة و راقبت السكان الجدد مع العمال و هم ينقلون الأثاث من الشاحنة المتوفقة على المدخل الى داخل الفيلا...قالت في ذاتها "مجانين، لا يعلمون ما ينتظرهم...و لكن هل ازورهم و اخبرهم انهم سيسكنون بالمكان الذي اختفى به زوجي، منذ ان دخل فيلا ستيفنز بتلك الليلة العاصفة لم يعد لي إطلاقا، حتى الشرطة اغلقت ملفه و قيدت القضية ضد فاعل مجهول،"
***********************
صرخت لميس من وسط الصالة في فيلاتها الجديدة و هي تؤشر بيدها ، "احمل الخزائن برفق! لا تتعامل معها بخشونه ارجوك! هذا اثاث اوروبي حساس! نعم ضعها بهذه الزاوية!" التفتت نحو باب الفيلا "يا حسن اين انت! نعم انت! ضع طقم الكنب بهذه الزاويةّ!"
اجاب حسن من على باب الفيلا "ست هانم، ينبغي ان ننقل من الشاحنة اثاث غرف النوم اولا لأن الكنب خلفها، "
اجابت لميس بتذمر "الم اقول لك العكس يا حسن! بسيطة، هيا فالننقل غرف النوم بسرعة، اريد ان ارتب كل الاثاث قبل المساء يا حسن!"
" لا تخافي، مازلنا بالصباح الباكر، لا تزال الساعة التاسعة،" التفت حسن نحو الشاحنة قائلا "يالله يا رجاله، اثاث غرف النوم، و انتبهوا له حينما تنقلوه عبر الأدراج الى الطابق العلوي! لو كسر معنا اي شيئ الست هانم لن تعطينا حلاوان السكن الجديد!"
توجه حسن الى الشاحنة بينما اجابته لميس "الحلاوان جاهز و لكن اريد ان ارى شغل على الأصول و بسرعة! إن لم ننجز بسرعة سيدركنا المساء و نحن لم ننتهي فالأثاث كثير،"
"حاضر ست هاتم،" اختفى صوته و هو يبتعد عن مدخل الفيلا بينما ارتفع صوت طقطقت معدن بالمطبخ، فصاحت لمس الى العامل الثاني "بهدوء يا زكريا! عفش المطبخ بهدوء! يا ربي اعني!"
اسرعت الى المطبخ و قالت له "نعم الأغراض و حلل الطبخ على الطاولة و لكن بهدوء ارجوك!"
وضع زكريا الحلل على الطاولة كما امرته لميس، كان شاب طويل مفتول العضلات اسمر البشرة و ذو عيون عسلية و وجه مستدير ضاحك، فقال للميس "هل انا بالصالة او بالمطبخ...اين انا بالضبط يعني! هذه غرفة واسعة جدا! هل نضع سرير النوم هنا؟"
ضحكت لميس و اجابته "لا سرير النوم فوق في غرفة النوم يا ثاقب الذكاء، هذا المطبخ!"
"يا قوة الله ست ليمس، هذه مساحة شقة بأكملها، مطبخ منزلي ثلاثة امتار بمتر بما فيهم مغسلة الأطباق و طباخ صغير بعين واحدة لطهي الطعام، أه فكرة جيد، لما لا تؤجرين المطبخ سكن مفروش، اعرف عائلة..."
قاطعته ضاحكة "هيا الى العمل يا زكريا و من دون مكثرة كلام، او سأخصم عليك!"
"كل شيئ الا الخصم، انا ذاهب"
هم مسرعا الى الخارج بينما لحقت به لميس و هي تضحك نحو المدخل لتراقب عميلة تنزيل الاثاث، و لكن فجأة تنبهت الى صوت طقطقت نعل نسائي يعلو بالخلفية، نظرت من حولها فرأت إمرأة على مسافة منها تسير نحو الفيلا، كانت في منتصف الطريق بين اشجار الحديقة قادمة بخطوات واثقة نحوها، كانت طويلة القامة ضعيفة ذات شعر اشقر طويل و بشرة بيضاء، كانت ترتدي معطف اسود انيق و بنطال ابيض، كانت الحقيبة السوداء التي تدلت من على كتفها تتراقص مع كل خطوة كانت تأخذها نحوها، صعدت ادراج المدخل على تيراس الفيلا ثم وقفت امامها و ابتسمت ابتسامة جميلة، كانت ذات وجه ملائكي من شدة جمالها، برقت عينيها الزرقاء تحت اشعة الشمس الساطعة و هي تقول بلطف و ترحاب...
"هل ممكن ان اتعرف على جيراننا الجدد؟"
بادلتها لميس الإبتسامة و اجابت مرحبة "انا لميس زوجة المقدم رشدي الحريري من مديرية امن الجيزه،"
"انا وفاء السواحلي جارتكم،" اشارت وفاء نحو بنايتها المقابلة للشارع امام الفيلا..."انشاء الله أدم السعد عليكم ست لميس"،...يتبع
اخذت رشفة من القهوة و استمتعت بمذاقها الراقي ثم اعادت الفنجان بحنو فوق الطبق الصغير امامها، لعشرة سنين مارست نفس الطقس الصباحي بصورة يومية قبل ذهابها الى عملها، كانت تملك محل بيع ملابس في سوق ليس ببعيد عن منزلها و كان له اسمه بين الطبقات الراقية بالمجتمع المصري، فكانت تسافر الى اوروبا من حين لآخر و تختار من مصانع الأزياء احدث الصيحات الأوروبية لتستوردها الى القاهرة، كان محل السنيورة المصرية مشهور جدا بالقاهرة و كان يتردد عليه كل محبي الأناقة و الأزياء الغربية و ذوي القدرة المادية، فاسعار الفساتين و الأثواب لم تكن رخيصة الثمن اطلاقا، و كان من حسن حظها ان اسم محلها انتشر في مصر حيث استطاعت جمع الأرباح الوفيرة من وراء تجارتها الناجحة...خصوصا بعد حادثة اختفاء زوجها المشؤومة منذ عشرة سنوات،
كان زوجها طلعت حمدي صحفياً بارزا بصحيفة نبض القاهرة، و كان له عامود يكتب به مقال اسبوعي في الصفحة الأخيرة يقدم به قضايا اجتماعية و قضايا غامضة لم يتم معالجتها، و كانت جزءا من القضايا التي يعالجها قضايا محلية تهم الشارع المصري مثل قضايا غلاء الأسعار و البطالة و بعضا من الشؤون السياسية، و اعتاد الكتابة من حين لآخر عن المنازل المسكونة او بيوت الرعب حيث اكتشف مع خبرته كصحفي ان تلك القضايا لها جمهورها و عشاقها، و اعتاد ان يعالجها من باب روح المغامرة، فكان السبق الصحفي يدفعه الى السير بدروب غير تقليدية مما كان يشد الناس لمطالعت كل مقالاته، مثل قضية منزل المنية الشهير، فروى سكان المنطقة لفترة من الوقت عن منزل مكون من طابقين تحدث به بالليل احداث مريبة، و كانت الشائعات عن جن يسكنه و يخيف كل من يحاول الأقتراب منه، فقرر فعل امر لم يكن بالحسبان اطلاقا، فذهب في ذات ليلة الى المكان الذي اتضح انه بوسط اراضي خضراء بمنطقة معزولة لا يربطها بالمدن من حولها الا طريق للسيارات، و حتى هذا الطريق كان لا يشهد ضغطا مروريا كبيرا، و قرر المكوث لليلة واحدة ليتاكد من صدق ما يقال حوله، و اخذ معه مقعدا و طاولة و اوراق و قلم و قنديل للضوء و انقطع عن العالم الخارجي لليلة كاملة في هذه المنطقة، فحتى لم يخبر مركز الأمن القريب منه بما يفعل، حاولت وفاء منعه و ردعه عن فعلته و لكن كانت روح المغامرة تشتعل بقلبه كصحفي لسبق كان يحلم به و قد يعد الأول من نوعه بالقاهرة، فذهب رغم ارادتها،
بكت وفاء تلك الليلة بكاءا مريرا حتى ابتلت وسادتها من الدموع التي كانت تنهمر من عينيها، فلم تنم بتاتا و هي تفكر بزوجها المسكين و ما قد يحصل له بذلك البيت المهجور، تحولت ساعات الليل الى ايام و هي تنتظر بزوغ الفجر ليعود لها حيث اخبرها بأنه في الساعة السادسة سيغادر العقار المشؤم بسيارته من المنيا الى القاهرة، و بالفعل صدق بوعده حيث وصل في الساعة الثامنة الى منزله و هو بصحة جيدة لتستقبله وفاء بالقبلات و الأحضان الدافئة، و ما ان جلس ليرتاح من عناء السفر حتى اتصل بقسم الشرطة ليخبرهم بما قد شاهد في تلك الليلة، فكانت الشائعات عن العقار وسيلة استخدمتها عصابة لإرعاب الناس من العقار و ليبتعدوا عنه...فكان مخزن للأسلحة و للمخدرات و قد كان موجودا بغرفة بالبيت حينما استخدموه بتلك الليلة لتخزين بضاعة جديدة....
كانت جلستها في هذا الصباح المشمس مزيج من الذكريات المفرحة و المؤلمة معا، فبالرغم من ارتباطها بطلعت لعشرة سنين الا انها شعرت و كأن الأشهر و الايام مرت بها معه كطرفة عين...و كأنه امس عابر و اليوم فقط قد فارق حياتها، فتارة كانت تبتسم للحظات عاشتها بسعادة معه كافتتاح النوفوتيه الذي حققت بواسطته اجمل احلامها، و الشهر العسل الذي قضياه ببيروت وسط الطبيعة الجميلة بأرقى الفنادق فتخللت زيارتهما رحلات عديدة للاماكن السياحية، و كلامه الجميل المفعم بلغة الحب و الرومنسية سيبقى مطبوع بذهنها مدى الحياة، كانت من اجمل ايام حياتها فكانت سعيدة و مستقرة الحال معه جدا، و بالرغم من عدم انجاب الأولاد له الا ان ذلك الأمر لم يؤثر على حبها الذي عاش في قلبه لسنين طويلة، فكانت هي حبيبته الوحيدة التي اخلص لها، فحتى لحظات خلافهما على بعض الأمور لم تستمر طويلا،
و لن تنسى اليوم الذي اختفى به، نظرت الى الفيلا امامها التي كانت مهجورة لفترة طويلة، كان الحي يلقبها بفيلا الأشباح فما كان احد يجرؤ على دخولها على الأطلاق، فكانوا سكان الحي يرددون انه بموسم الخريف و الشتاء توقظ العواصف الرعدية شبح او جان في داخلها، فكان ضوء مبهم الهوية يتنقل في داخلها...و كان احدهم يمسك بقنديل و يسير باروقتها، كانت الأبواب تطرق بمفردها اثناء نوء العواصف و كانت تسمع من داخلها صيحات و صرخات مريبة، في كل مرة تجتاح القاهرة العواصف الرعدية كانت بحسب شهود عيان تتكرر نفس الشكاوي...الا ان استقرت هي و زوجها طلعت بالحي، فمن عشرة سنين اشترى طلعت الشقة التي تسكن بها حاليا، و سكنا بها سريعا بسبب جمال موقعها و قربها من الصحيفة التي كان يعمل بها، فكانت على مسافة عشرة دقائق بالسيارة، و في يوم من الايام و اثناء هبوب منخفض جوي ذو فعالية عالية في وقت المساء زارهم جار لهم بالشقة ليتعرف عليهم كسكان مستجدين بالعمارة، كان شاب وسيم الطلة على وشك الزواج من امرأة جميلة من اقربائه و احب التعرف على من سيكونوا جيرانه هو و زوجته بالمستقبل، و اثناء حديث تناقشوا به بشتى المواضيع السياسية و الحياتية سأل طلعت من باب الفضول عن الفيلا القديمة مقابل العمارة، فاخبره ما يقال عنها من امور مريبة و كيف كانت موجودة قبل معظم البنيان الحديث بالحي الحالي، اثار الكلام فضول طلعت كثيرا و سرعان ما غادر جارهم لتتفاجئ وفاء بنيته تكرار تجربة المنيا، شعرت بالضيق الشديد من قراره فكانت هي من سيدفع الثمن من شدة قلقلها عليه، لكن لم تتمكن من معارضته فكانت تعرف تماما طبعه العنيد و روح المغامرة التي تزلز كيانه لسبق صحفي جديد،
كانت ليلة مشؤومة، فلبدة السماء الغيوم السوداء المشبعة بالرطوبة و هاجت على القاهرة نوء جبارة انذرت بعاصفة مطرية لا يحمد عقباها، نظرت وفاء الى زوجها الذي كان يستعد لمغامرته المعهودة، كان طلعت وسيم الطلة بالخمسين من العمر حينها، كان ضخم البنية طويل ذو بشرة سمراء و عيون عسلية و شعر اسود كثيف يوحي للذي ينظر اليه بأنه في شباب منتصف العمر، كان عريض المنكبين و مفتول العضلات بسبب ممارسته للرياضة، كان واقف بجانب الخزانة يرتدي معطفه حينما اقتربت منه، نظر اليها نظرة طويلة لتقول لها عينيه الكثير عما في قلبه، اجابت عينيه "أُحِبُكَ انا ايضا كثيرا...املي ان تغير رأيك، اكتب عن اي شيئ آخر غير هذه الفيلا المخيفة، ارجوك اذا كنت تحبني..."
اجابها "انت تعلمين كم انا متيم بك، و لكن وجودي في قلب الأحداث يشحن قلمي بإلهامات كثيرة لا تحضرني بالظروف الطبيعية، هذا ما أشعر..."
"طلعت هذا المكان مهجور منذ عدة عقود، لا تعلم ما في داخله...ارجوك،"
اجاب مجادلا "هذه ليست اول مرة يا وفاء اذهب لاتحقق من امر بيوت مهجورة، ثقي بي انني سأعود اليك...أعدك دائما و اوفي بوعدي...."
قبلها على شفاهها قبلة اشعلت مشاعرها نحوه، فآجابت قبلته بقبلات ملتبهة على شفاهه و ضمته بحنو كبير ذكرتها بما حصل بينهم في ليلة زفافها...شعرت و كأنها تلمس جسده لأول مرة...بل شعرت بعطش عاطفي كبير لم تشعر به من قبل...فارادت ان ترويه بقبلات شفاهها و لمسات بديها على جسده لانه ارعبها و ارغمها على ما كانت تفعله...و بالرغم من واقع الأمر الا ان القدر لم يمنحها هذه اللحظات الرومنسية...ففجأة ابعدها عنه و قال لها "يجب ان اذهب، هذا المنزل سيجلب لي سبق صحفي جديدا قد ينشر لي بالصفحة الأولى من العدد القادم،"
صرخت وفاء متوسلة "حبيبي! اريدك بجانبي!"
قال لها بهدوء "سأعود، ثقي بي،" اخذ دفتره و قلمه وكرسي ليجلس عليه و خرج من المنزل،"
نظرت وفاء من نافذة منزلها المطلة على الفيلا المهجورة، كانت العاصفة بأوجها فكانت تدوي الرعود و تضيئها البروق القوية في كل دقيقة تقريبا، نظرت الى الشارع و شاهدت زوجها يجري الى الطرف الآخر نحو الفيلا و يفتح بوابتها، سار بسرعة بين الأشجار القديمة في ممر طويل هربا من النوء ثم رأتها يفتح باب الفيلا الرئيسي...بعد ساعة من بدأ العاصفة اشتد جبروتها فانهمرت الأمطار على الحي امامها و زادت حدت الرياح ليعلو صفيرها بين الأبنية و المنازل بالحي من حولها، ابتعدت عن النافذة خوفا من ما كان يحصل فقد تحمل الرياح معها الأشياء الخفيفة و تقذفها على المنازل و نوافذ الشقق...جلست على كرسي في الصالة و حاولت نسيان مغامرة زوجها المجنونة، فابتدأت بتصفح صحيفة لمحاولة نسيان ما حدث، حاولت التركيز على بعض من المقالات الفنية و لكن سرعان ما كان يعود تفكيرها الى زوجها و ما قد يواجه بالفيلا المهجورة، قالت في ذاتها "يا ربي ماذا عساي ان افعل لو حدث له سوء، لو تكرر سيناريو فيلا المنيا و تكاثرت عليه اعضاء عصابة ما و قتلوه او ضربوه سأموت قهرا عليه، "
نهضت فجأة من مكانها و ذهبت الى مدخل الشقة، اخذت معطفها من على العلاقة بجانب الباب و ارتدته، فتحت الباب لتخرج و لكن فجأة شعرت بخوف شديد يتملكها، فلم تستطع الذهاب في منتصف الليالي الى هذه الفيلا المهجورة خوفا من توبيخ زوجها لها، عادت الى الصالة و امسكت بالهاتف و قررت الإتصال بصديق لهم، كان اسمه زهدي و كان الصديق الوفي لطلعت، كانت متأكدة بأنه لن يتأخر عن تقديم اية مساعدة لهم، امسكت الهاتف و طلبت رقمه فأجاب الإتصال لحسن حظها، و كان ظنها بمحله فحضر الى منزلها بالرغم من العاصفة الهوجاء التي كانت تعصف بالقاهرة، و فور وصوله الى شقتها اخبرته بما فعل زوجها، ارتسمت علامات عدم الرضا على وجهه و شعر بالخوف الشديد عليه فانطلق ورائه الى الفيلا من دون تأخير، اصرت وفاء على مرافقته من الخوف على زوجها و لكنه رفض رفضا قاطعا و جعلها تنتظره بالمنزل،
كانت تتذكر وفاء ما حصل جيدا مع زوجها من عشرة سنين، و لن تنسى اطلاقا ما حل بها بعد مأساة وفاته، اخذت آخر رشفة قهوة امام نافذتها التي كانت تطل على احد الشوارع الهادئة بالزمالك، كانت تمر بعض السيارات من حين لآخر و كان هنالك بعض المشاة على ارصفة الطرقات، و لكن مما لا شك به ان هذا الحي كان راقيا بطبقة الناس التي تسكنه و شارعه الذي كان يتميز بقلة سير المركبات...نظرت الى الفيلا المهجورة و راقبت السكان الجدد مع العمال و هم ينقلون الأثاث من الشاحنة المتوفقة على المدخل الى داخل الفيلا...قالت في ذاتها "مجانين، لا يعلمون ما ينتظرهم...و لكن هل ازورهم و اخبرهم انهم سيسكنون بالمكان الذي اختفى به زوجي، منذ ان دخل فيلا ستيفنز بتلك الليلة العاصفة لم يعد لي إطلاقا، حتى الشرطة اغلقت ملفه و قيدت القضية ضد فاعل مجهول،"
***********************
صرخت لميس من وسط الصالة في فيلاتها الجديدة و هي تؤشر بيدها ، "احمل الخزائن برفق! لا تتعامل معها بخشونه ارجوك! هذا اثاث اوروبي حساس! نعم ضعها بهذه الزاوية!" التفتت نحو باب الفيلا "يا حسن اين انت! نعم انت! ضع طقم الكنب بهذه الزاويةّ!"
اجاب حسن من على باب الفيلا "ست هانم، ينبغي ان ننقل من الشاحنة اثاث غرف النوم اولا لأن الكنب خلفها، "
اجابت لميس بتذمر "الم اقول لك العكس يا حسن! بسيطة، هيا فالننقل غرف النوم بسرعة، اريد ان ارتب كل الاثاث قبل المساء يا حسن!"
" لا تخافي، مازلنا بالصباح الباكر، لا تزال الساعة التاسعة،" التفت حسن نحو الشاحنة قائلا "يالله يا رجاله، اثاث غرف النوم، و انتبهوا له حينما تنقلوه عبر الأدراج الى الطابق العلوي! لو كسر معنا اي شيئ الست هانم لن تعطينا حلاوان السكن الجديد!"
توجه حسن الى الشاحنة بينما اجابته لميس "الحلاوان جاهز و لكن اريد ان ارى شغل على الأصول و بسرعة! إن لم ننجز بسرعة سيدركنا المساء و نحن لم ننتهي فالأثاث كثير،"
"حاضر ست هاتم،" اختفى صوته و هو يبتعد عن مدخل الفيلا بينما ارتفع صوت طقطقت معدن بالمطبخ، فصاحت لمس الى العامل الثاني "بهدوء يا زكريا! عفش المطبخ بهدوء! يا ربي اعني!"
اسرعت الى المطبخ و قالت له "نعم الأغراض و حلل الطبخ على الطاولة و لكن بهدوء ارجوك!"
وضع زكريا الحلل على الطاولة كما امرته لميس، كان شاب طويل مفتول العضلات اسمر البشرة و ذو عيون عسلية و وجه مستدير ضاحك، فقال للميس "هل انا بالصالة او بالمطبخ...اين انا بالضبط يعني! هذه غرفة واسعة جدا! هل نضع سرير النوم هنا؟"
ضحكت لميس و اجابته "لا سرير النوم فوق في غرفة النوم يا ثاقب الذكاء، هذا المطبخ!"
"يا قوة الله ست ليمس، هذه مساحة شقة بأكملها، مطبخ منزلي ثلاثة امتار بمتر بما فيهم مغسلة الأطباق و طباخ صغير بعين واحدة لطهي الطعام، أه فكرة جيد، لما لا تؤجرين المطبخ سكن مفروش، اعرف عائلة..."
قاطعته ضاحكة "هيا الى العمل يا زكريا و من دون مكثرة كلام، او سأخصم عليك!"
"كل شيئ الا الخصم، انا ذاهب"
هم مسرعا الى الخارج بينما لحقت به لميس و هي تضحك نحو المدخل لتراقب عميلة تنزيل الاثاث، و لكن فجأة تنبهت الى صوت طقطقت نعل نسائي يعلو بالخلفية، نظرت من حولها فرأت إمرأة على مسافة منها تسير نحو الفيلا، كانت في منتصف الطريق بين اشجار الحديقة قادمة بخطوات واثقة نحوها، كانت طويلة القامة ضعيفة ذات شعر اشقر طويل و بشرة بيضاء، كانت ترتدي معطف اسود انيق و بنطال ابيض، كانت الحقيبة السوداء التي تدلت من على كتفها تتراقص مع كل خطوة كانت تأخذها نحوها، صعدت ادراج المدخل على تيراس الفيلا ثم وقفت امامها و ابتسمت ابتسامة جميلة، كانت ذات وجه ملائكي من شدة جمالها، برقت عينيها الزرقاء تحت اشعة الشمس الساطعة و هي تقول بلطف و ترحاب...
"هل ممكن ان اتعرف على جيراننا الجدد؟"
بادلتها لميس الإبتسامة و اجابت مرحبة "انا لميس زوجة المقدم رشدي الحريري من مديرية امن الجيزه،"
"انا وفاء السواحلي جارتكم،" اشارت وفاء نحو بنايتها المقابلة للشارع امام الفيلا..."انشاء الله أدم السعد عليكم ست لميس"،...يتبع