الرغبات والمحددات في صياغة الخيارات السياسية

أخبار البلد-

 
عديدة هي القوى السياسية، في المنطقة العربية، التي تصر على أن تحمل نفسها وتحمل مجتمعاتها مطالب وأهداف وبرامج رغائبية، أكثر منها أهداف قابلة للتحقق ضمن دائرة الفعل والفاعلية، وميزان القوى الحقيقي على الأرض. وبدلاً من السعي لتغيير موازين القوى لإنجاز ما يمكن إنجازه ضمن دائرة الفاعلية، يتم الاستعجال بإعلان أهداف ما بعد النصر. ثم التورط في اشتقاق خيارات ومعارك لمرحلة ما بعد النصر، وكأن النصر قد تحقق.
بين دائرة الفعل الوطنية، ودائرة الآماني الإقليمية والقومية، ترتبك القوى السياسية، وتتورط بخيارات ومعارك تستنزف المجتمعات العربية، وتورطها ببرامج وأولويات خارج نطاق الفاعلية الممكنة والمفيدة. فحزب الله في لبنان نموذجاً للاستراتيجية التي تتجاهل صيانة الانتصارات وتعزيزها، والقفز نحو استثمارها لتحقيق انتصارات أخرى رغائبية أكثر منها واقعية. مواجهة إسرائيل كان خياراً عملياً مفتوحاً حتى حرب عام 2006، وصدور قرار دولي يرسم خريطة القوى على الأرض بشكل واضح. وبدلاً من العمل على تطوير برنامج وطني لبناني، تركز الجهد على (فتح جبهات) تبرر غياب هذا البرنامج.
الحركة الحوثية في اليمن، نموذج آخر، بعد أن حققت نتائج مميزة على الأرض، يبدو أنها انزلقت لمصيدة الأهداف الرغائبية، والسعي لاستثمار الانتصارات خارج نطاق الممكن. وبدلاً من تعزيز متكسباتها، كمدخل لتعديل ميزان القوى لصالحها، استمر الاندفاع نحو تحقيق أهداف جديدة، أفقدها القدرة على استثمار انتصاراتها السابقة. صحيح أن النصر يفتح الشهية والفرصة لتحقيق انتصارات جديدة، ولكن الصحيح أيضاً أن النصر يحتاج إلى حكمة لإدارته وتحويله إلى منجز. ومن يعجز عن صيانة انتصارات ومكتسباته يخسر الحرب.
إدارة الصراعات تستند إلى مثلث الأهداف والوسائل المتاحة، والطرق التي يمكن توظيف الوسائل فيها للوصول للهدف. والأخيرة ليست رغائبية، بل متعلقة بالفهم الموضوعي للبيئة ولعلاقات القوى الحقيقية على الأرض. رفع شعارات خارج نطاق الممكن، والتورط بأهداف لا يمكن أن نشتق لها أفعال منطقية لتحقيقها، هي شكل من أشكال الانتحار، وهدية مجانية تقدم للخصوم.
الحكمة في إدارة الصراعات متعلقة بكسب الحلفاء، وليس الخصوم. دروس حرب الاستقلال الأمريكية، والحرب الأهلية الأمريكية، إنجازاتها درس عظيم في كيفية تحويل الأهداف التاريخية الكبرى إلى خطوات صغيرة، بحيث تبقى أهداف الصراع ضمن دائرة الفاعلية. والولايات المتحدة، بكل ما تمتع به من قوة الآن، تقوم استراتيجيتها المعلنة على البحث عن الحلفاء وليس توسيع دائرة الخصوم.
وهذا هو الدرس التاريخي الأهم والمتمثل بتحديد الأهداف، والحفاظ عليها. فلا يمكن إدامة الجهد وتركيزه على أهداف متحولة ومتحركة. الحفاظ على وحدة الهدف، بشكل واضح ضمن دائرة الفاعلية الممكنة، مبدأ أساسي للتقدم. الانجرار خلف أهداف رغائبية لا يمكن أن نشتق لها فعلاً ممكناً هو مصيدة وقعت بها العديد من القوى وحركات التحرر، وكان نتيجتها خسارات مروعة.
إعلان الحوثيين (الآن، وفي غمرة صراعها من أجل استقلال اليمن ووحدة أراضيه، وحقوق شعبه بالسلام والاستقرار) بأنهم قوة إقليمية، وهذه رغبة مشروعة، ولكنها ثمرة من ثمرات النصر الممكن، وليست هدفاً راهناً من أهداف الصراع الذي تخوضه. ومثل هذا الإعلان قد يؤدي إلى خسارة الفرصة لانهاء الحرب في اليمن. فالحركة ليست بديلاً عن الدولة. الحركة الحوثية من أجل بناء يمن جديد، وليس لتغيير الإقليم؟ دولة اليمن هي اللاعب الإقليمي، وليس الحركة.
ضرورة عدم تجاهل جدل الحركة والدولة، وبقاء السؤال عن العلاقة بينهما حاضراً، ضرورة لتجنب الصراعات العبثية. الدور الإقليمي، مهمة حصرية للدول الملتزمة بقواعد العمل الدولي. والحركات تخوض صراعها على الدول وليس على الأقاليم.