هل تسبب الوباء في تقويض صحتنا العقلية والنفسية؟
اخبار البلد - تحول الحكم على الآخرين إلى لازمة من لوازم جائحة فيروس كورونا المستجد كمثل كومة مهملة من الأقنعة المهترئة. وفي محاولة لتفادي الانتقادات اللاذعة، حاول بعض الأشخاص، وربما المؤسسات، إلى تعديل صور الكمامات على الوجوه في مختلف المنشورات على منصات التواصل الاجتماعي. في حين قام آخرون، ممن يسعون إلى الانتقادات، بإغراق غرف الدردشة الجماعية التي كانت ودية بكثير من الدعوات المشكوك في أمرها الخاصة بفيروس كورونا المستجد - ويشكل جيران هايدي كروز أبرز الأمثلة وأكثرها شهرة على ذلك.
أصبح أولئك الذين قضوا أياماً وشهوراً مطولة قيد العزلة الذاتية لا يتحملون رؤية الصورة الشخصية للأصدقاء أو الأقارب من داخل المقاهي، أو المطاعم، أو الطائرات. وانتهى كثير من الصداقات الجيدة بسبب الجدال الحاد حول سلامة الوجود في مظاهرة ما أو الخروج في موعد خاص. ولا يتعلق الأمر بالانتقادات الموجهة من أصحاب الكمامات المزدوجة ضد غير الملتزمين بارتداء الكمامات، والموصوفين بلفظة «بُلهاء الكورونا»، وإنما انتقل الأمر إلى التعجب الشديد المبالغ فيه من أي إنسان يخرج للتسوق في محلات البقالة!
وحتى اللقاحات، التي ينبغي أن تكون سبباً للارتياح وتنفس الصعداء، قد تحولت إلى أحد مصادر التوتر القائمة، إذ تضخم الجدال بشأنها حول الفوارق في معايير التأهل لتناول اللقاح، مثل المدخنين في مقابل المعلمين، وأصحاب داء السكري في مقابل جامعي القمامة. وبالنظر في جدول التطعيم المعتمد في ولايتي، يبدو أنني أتصدر قائمة التصنيف بعد عمال الموانئ ومحطات الشحن، ولكنني أجد مكاني قبل عمال صناعة المشروبات المعبأة. وبطريقة ما، أشعر بأن هناك تعليقاً يصارع الانفلات من بين شفتيّ!
ومن ثم، ومع حالة القلق والحبس والعزلة الراهنة، لقد شهدنا 12 شهراً من الاستياء البالغ من صور سفريات أناس آخرين على «إنستغرام» أو مع مكاتبهم المنزلية الفسيحة عبر «زووم». إضافة إلى 12 شهراً من المحادثات الساخنة المشحونة مع الأصدقاء وأفراد العائلة حول ما إذا كان مجرد الذهاب إلى متجر البقالة يعني أنك لا تزال قيد الحجر الصحي من عدمه - أو أنك تخاطر بمنتهى الأنانية بصحة الأشخاص الآخرين من متسوقي المتجر نفسه. وجرى تخصيص فئة كاملة من رموز الإنترنت الساخرة الموجهة ضد الأشخاص الذين يرتدون الكمامات الواقية أسفل أنوفهم.
إن الشدة أمر مفهوم في الأجواء الراهنة. ومن المحتمل أن إصدار الأحكام على الآخرين كنت له فائدة تطورية واضحة في الأيام الخالية التي كان البشر فيها يركضون فراراً من النمور المتوحشة ذات الأنياب الفتاكة القاتلة، تماماً كما تقول الدكتورة تاشا يوريش المختصة في علم النفس التنظيمي. إذ كان البشر يواصلون البقاء بمساعدة بعضهم فحسب، وكان من المفيد وقتذاك توافر الإحساس بما هو صواب وما هو خطأ بالنسبة للجماعة البشرية وقتها. ومن ثم، لقد عاد بنا الوباء الراهن إلى عالم تلوح فيه النزعة النصائحية الجماعية بصورة كبيرة: مع انتشار الوباء القاتل في الأجواء، فإن تصرفات وقرارات كل شخص تؤثر ولا بد على صحة الآخرين.
وفي الأثناء ذاتها، تركت السلطات المحلية المعنية للناس حرية اتخاذ القرارات بشأن تحديد ما هو محفوف بالمخاطر وما هو آمن تماماً. الأمر الذي يخلق أرضية خصبة ومثالية لتوجيه اللوم إلى الآخرين. وإننا نتوقع لذلك الأمر أن يتفاقم ويزداد سوءاً، لا سيما مع توجه الدول إلى التخفيف ثم إلغاء القيود المفروضة ذات الصلة بالفيروس.
تقول الدكتورة يوريش إن الاستياء الإصلاحي يتسم بالإدمان. غير أن نظرات السخط والازدراء اليومية تثير الإرهاق: «هناك صلة تجريبية واضحة بين الإفراط في الحكم على الآخرين ومقدار التوتر الذي نشعر به جراء ذلك. إذ إن الانغماس في مراقبة ورصد سلوكيات الآخرين أشبه باحتساء السم ثم انتظار وفاة غريمك».
وإذا كان جلب الخزي على الآخرين باهظ التكلفة على هذا النحو، فلماذا يستمر الناس في ممارسته؟ تقول الدكتورة يوريش إنه من اليسير نفسياً أن نحدد أن فلاناً وفلاناً هم من الأشخاص السيئين، عوضاً عن تقبل الفكرة المتنافرة القائلة إن الشخص الصالح ربما يقع في الاختيار السيئ.
كما أن إلحاق العار بالآخرين يسبب الوهم النفسي بالسيطرة عليهم. وبالتالي: «لقد ذهب فلان إلى المقهى، لا بد أنه مصاب بفيروس كورونا» هي وسيلة من وسائل النأي بالنفس عن موقف اتخذه شخص آخر، مع التمني الذاتي بأن توفر لنا خياراتنا الخاصة حماية من درجة ما. وهي أيضاً وسيلة تحمينا ذاتياً من إدراك القدر الضئيل للغاية الذي نملكه من التحكم في ذلك العالم الصاخب، وغير المبالي، والخطير للغاية في بعض الأحيان.
لقد تسبب الوباء في تقويض صحتنا العقلية والنفسية. وعلى كل المقاييس، فإن معدلات القلق والاكتئاب تواصل الارتفاع في كل مكان تماماً، كما يزيد الحكم على الآخرين من إنهاك أنفسنا يوماً بعد يوم.
كما أنها تؤدي إلى تقويض الصحة العامة. إن المعايير ذات الصلة بالسلوكيات السليمة مثل الالتزام بارتداء الكمامات هي جيدة للغاية. ولكن إذا علم الناس أنهم سوف يخضعون للحكم عليهم بسبب نتائج اختباراتهم الإيجابية للفيروس، فسوف يتجنبون الخضوع لإجراء الاختبارات في المقام الأول. إنَّ الربط بين الإصابة بفيروس كورونا بسبب اللامبالاة في السلوكيات يدفع الناس دفعاً على الكذب في تتبع جهات الاتصال الخاصة بهم، والكذب أيضاً على أفراد الأسرة الواحدة، وحتى الكذب كذلك على فاحصي الأعراض المصاحبة للإصابة بالمرض.
في بدايات انتشار فيروس كورونا، لاحظ المؤرخون أنَّه بعد نجاح وباء الإنفلونزا لعام 1918 في تحريض الجار الخائف ضد جاره الخائف، فإنَّ الأشخاص الذين عاصروا تلك الحقبة المريعة كانوا أقل رغبة فعلياً في الحديث عنها مع الآخرين، والسبب في ذلك واضح تماماً.
تقول الدكتورة يوريش، إننا سوف نتمكن، من الناحية المثالية، في حشد قدر من التعاطف بعضنا تجاه بعض، وتجاه أنفسنا، في تلك الأوقات العصيبة. وأضافت تقول: «تملك المغفرة قوة عظيمة. وهي تساعد في واقع الأمر على العمل والتصرف بأفضل الطرق الممكنة. ويعد التعاطف هو الترياق الناجع في التأمل والنظر في احترام خيارات الآخرين».
لكن الدكتورة يوريش تعترف في الوقت نفسه بأن بعض الناس ربما يجدون هذه النظرة كمثل الجسر البعيد للغاية. وبالنسبة إليهم، ربما يكون المنهج المختلف مفيد أيضاً: في المرة المقبلة التي يتخذ فيها شخص ما قراراً لا يتسم بالحكمة، ينبغي أن نتخذ قراراً واعياً بالامتناع تماماً عن اعتباره شخصاً سيئاً. ومن ثم، فإنَّ هذا النوع من الاختيارات التحفيزية يقلل من بواعث الغضب والاستياء في النفس، وبعد مرور 12 شهراً على الجائحة، من شأنه أن يوفر قدراً معتبراً من الابتعاد عن إصدار الأحكام الجائرة على الآخرين.